كتاب عربي 21

عن الانتظام العربي العام: رؤية جديدة لأزمات الدين والدولة والمجتمع

قاسم قصير
1300x600
1300x600
في ظل الأزمات الممتدة في العالم العربي حول الدولة والعلاقة بالمجتمع والدين والتحديات المختلفة التي تواجه معظم الدول العربية اليوم، يستمر المفكرون العرب في البحث عن طبيعة هذه الأزمات وأسبابها والحلول الممكنة لها، والسعي لابتداع رؤى جديدة لفهم الأسباب العميقة لما وصلنا إليه، وخصوصا بعد الربيع العربي والثورات الشعبية التي نحتفل بمرور حوالي اثني عشر عاما على انطلاقتها، ابتداء من الثورة التونسية مرورا بكل الثورات والتحركات الشعبية في الدول العربية.

وفي هذا الإطار صدر مؤخرا في بيروت عن دار الفارابي كتاب جديد للمفكر اللبناني الدكتور وجيه قانصو، تحت عنوان: "الانتظام العربي العام- مشكلة الدين والدولة والمجتمع".

والدكتور وجيه قانصو من المفكرين العرب الذين برزوا في السنوات الأخيرة من خلال سلسلة الدراسات والأبحاث التي أنتجها حول النص الديني وتاريخ المذاهب الإسلامية وكيفية الاستفادة من العلوم الحديثة، ولا سيما علم الهرمنوطيقا (أو الألسنية) في دراسة الظواهر الاجتماعية والدينية. وله مقاربات جريئة ونقدية للفكر الديني والواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي والإسلامي.

وفي كتابه الجديد حول مشكلات الدين والدولة والمجتمع، أو ما سماه "الانتظام العربي العام"، يعمل الدكتور قانصو لإعادة التفكير في مفهوم الدولة في العالم العربي والإسلامي منذ بروز الدين الإسلامي وعلى مدار التاريخ الإسلامي الممتد طيلة 1400 عام، ويحاول استخدام المنهجيات العلمية والاجتماعية في مقاربة الأزمات التي يواجهها العالم العربي والإسلامي اليوم، من أجل البحث عن خارطة طريق للحلول المستقبلية.

ويعتبر قانصو أن الدولة في التاريخ الإسلامي كانت دولة حماية وسلم داخلي، أي كيانا غير مرتبط في حقيقته بالمجتمع أو متصل به، ويمارس مهامه من خارجه، فلا المجتمع معني بأي دولة يريد طالما أنها تقوم بمهمة الكفاية والشوكة، ولا الدولة معنية بتطورات الرعية وما يحصل بداخلها، طالما أن السياسة لم تصبح جزءا من ثقافة الرعية واهتماماتها ولم تدخل في تكوينها لتتخذ هيئة سياسية موحدة.

ويضيف: إن هذا الواقع في طبيعة علاقة الدولة بالمجتمع، فرض الاستغناء عن التفكير في حقيقة الدولة وطبيعتها، وغيّب أي مسعى مجتمعي لبناء واقع سياسي يكون فيه مرجعية أو شريكا في عملية القرار السياسي، ما جعل الدولة في بنيتها النظرية أو الفكرية أو نشاطها العملي كيانا منفصلا عن المجتمع وتكويناته الداخلية ومضامينه الثقافية وثوابته القيمية، وجعل حقيقتها مبهمة أو مسألة هامشية، وهو ما يفسر استمراريتها على هيئة واحدة وهي الدولة السلطانية.

ومن ثم يستعرض قانصو تطور الدولة طيلة القرون الماضية، ولا سيما بعد بروز الدول العربية الحديثة عقب الاستعمار، ومن ثم مرحلة الاستقلال ونشوء الدول القائمة على الشرعية الثورية وما قامت به من مهام أمنية واقتصادية ومجتمعية، لكنها فشلت في تأمين التنمية الداخلية والحصول على الشرعية الشعبية، وبرزت الهوة بين السلطة والمجتمع، وتعمّق اغتراب الفرد عن المجتمع، واتسعت المساحة بين المجال الأخلاقي والديني والواقع السياسي، مما أدى إلى حالة الافتراق بين السلطات القائمة والواقع المجتمعي.

ويستعرض قانصو كل التجارب العربية في السلطة والدولة وأسباب الفشل الذي واجه الدولة في العالم العربي، وعلاقة كل ذلك بدور الدين والمجتمع وفشل التجارب الإصلاحية وصولا إلى المرحلة الحالية.

وطبعا لا يمكن اختزال الأفكار والطروحات التي قدمها الدكتور قانصو في كتابه المرجعي حول الدولة والدين والمجتمع (حوالي خمسمائة صفحة من الحجم الكبير) مع حشد عدد كبير من المراجع والمصادر العربية والأجنبية، وهو معروف عنه بعمقه الفكري وسعيه الحثيث للحفر في المجال الفكري والنقدي. وهذا الكتاب يضاف إلى سلسلة الكتب والمحاولات العربية الفكرية التي برزت في العقود الأخيرة من أجل تفسير الواقع العربي وأسباب الفشل في قيام الدولة العربية الطبيعية، إضافة إلى فشل التجارب الإصلاحية والثورات الشعبية واستمرار الأزمات في العالم العربي إلى اليوم.

ويخلص الدكتور قانصو إلى تقديم مجموعة أفكار جديدة وتأسيسية من أجل مقاربة الأزمات العربية اليوم، ومنها:

أولا: ضرورة إطلاق ورشة اجتهادية- تأويلية لتحرير النص الديني من فرضيات ومسبقات المؤسسة الفقهية.

ثانيا: تكثيف التضامنات المدنية داخل المجتمع، والمبادرات الإنتاجية المستقلة عن إشراف الدولة وتحكمها، ليستعيد المجتمع زمام المبادرة لإبداع أطر علاقات أبعد وأوثق من الروابط العضوية ويخفف من وصاية الدولة عليه.

ثالثا: بناء المجال السياسي الذي يُظهر أفراد المجتمع ومكوناته التضامنية كائنات سياسية تشارك في صناعة القرار السياسي، ولا تعود السياسة مقتصرة على الدولة وأهل الحكم، ويتسع مجالها ليشمل الدولة والمجتمع وتتوسع دائرة المشاركة والانخراط في الشأن العام.

رابعا: التأسيس للحرية بصفتها قيمة مركزية وجوهرية لأي انتظام عام غير قابلة للانتزاع أو المساومة، وهذا يستدعي معه قيم المساواة والحقوق وحق المبادرة والتعبير والاعتقاد والتجمع.

خامسا: تعزيز التفكير والممارسة العقلانيين في تدبير شؤون الحياة العامة والخاصة. والعقلانية هنا ليست مجرد نشاط ذهني وفق قواعد ثابتة ومسبقات بديهية، أي هي ليست آلة مثل آلة المنطق تعصم العقل عن الوقوع في الخطأ، بل هي فاعلية وابتكار وخلق، أي فن إنساني يتجلى في الفهم والتفسير والتدبير، وقدرة إنسانية على إبداع قواعد ومنهجيات تفكير جديدة. والعقلانية هي العقل الإنساني في حال إبداعه لنفسه.

نحن إذن أمام مقاربة جديدة لأزمة الدولة والدين والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، وهي محاولة لتفسير أسباب الفشل في قيام الدولة وفشل الثورات الشعبية العربية ومشاريع الإصلاح، وهي تضاف إلى بقية المحاولات لتجديد الفكر العربي والفكر الديني، عسى أن تنال نصيبها من النقاش والحوار اليوم في ظل الأزمات التي يواجهها العالم العربي والإسلامي والحاجة إلى أفكار جديدة تفتح الطريق نحو الإصلاح والتجديد.

twitter.com/kassirkassem
التعليقات (1)
التصحيح الديني قبل التصحيح السياسي والاقتصادي
الأربعاء، 02-11-2022 02:45 م
ان الحقيقة الكبرى التي غفل عنها فقهاء الاسلام قديما وحديثا هي ان الاسلام قد دشّن عصر ما بعد الرسالات، أي عصر صلاحية الانسانية للتشريع لنفسها، وبغير ذلك فان البشرية كانت ستبقى دائما بحاجة الى انبياء جدد. لقد انعزلت أمة العرب عن بقية امم الارض المتحضرة لمئات السنين. وكان من نتائج هذا الانعزال، عجزها شبه التام عن انتاج المعرفة. وكانت الثقافة الدينية الموروثة الخاطئة هي السبب الرئيسي في هذا الانعزال، بسبب التناقضات الكثيرة الموجودة كتب الموروث الديني مع ايات التنزيل الحكيم، مما اثر سلبا في تشكل العقل الجمعي العربي. وكان السبب الرئيسي لذلك التناقض هو قيام ائمة المسلمين الاوائل والمعاصرين)، بنقل اسلوب الحياة الدنيوية للنبي وصحابته، على انه جزء من الدين، واعطوا ذلك صفة القداسة والشموليه والعالميه والابديه. فكان من تنيجة ذلك ان اصبحت المحرمات بين ايدينا بالمئات بل بالالاف بدلا عن اقتصارها على الاربعة عشر محرما المذكورة في كتاب الله. فقول الله تعالى في الاية الكريمه (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا .... 151/الانعام) يؤكد ان المحرمات محصورة في الايات المذكورة. وأن الله تعالى هو صاحب الحق الوحيد في التحريم. فكل اوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه هي اوامر ونواهي تحمل الصفة المدنيه ضمن نطاق حكمه المدني من مقام النبوه، وهدفها تنظيم الحلال فيما يتعلق بمجتمعه المدني ودولته المدنيه في زمانه فقط، ولا تحمل صفة الشموليه ولا العالمية ولا الابدية، باستثناء ما كان منها يتعلق بشعائر الصلاة والزكاة، حيث امرنا الله تعالى بطاعة الرسول فيهما بشكل منفرد (واقيموا الصلاة واتوا الزكاة واطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). فهل من المقبول بعد ذلك ان يقال ان كل ما قاله واجتهد به العلماء الاوائل والمعاصرون هو من ثوابت الدين؟ وهل كل تفاصيل حياة النبي الدنيوية اليوميه واجتهادات من أتى من بعده من الخلفاء والائمة هي من ثوابت الدين؟ لقد كاد فقهاء الاسلام الاوائل والمعاصرين ان يؤلّهوا رسول الله. وكان من نتائج ذلك أن طغت محورية الحديث النبوي المنقول، على محورية كلام الله تعالى. واصبح ينظر لاحاديث النبي وتشريعاته على انها وحي ثان مواز للتنزيل الحكيم ومطابق له في القدسية، وربما اعلى منه في بعض الاحيان. واستندوا في ذلك على تفسيرهم للاّية الكريمه "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى". واعتبروا ان تفسيرهم ذلك لهذه الاية هو تفسير نهائي غير قابل للمراجعة ولا للتصحيح، رغم ان هذا التفسير للآّية الكريمة لم يصدر عن النبي، ولم يرد عنه انه قال ان كل ما يقوله هو وحي من الله. ان معظم كتب الموروث الديني ماهي الا صناعه انسانية بحته، بمعنى انها لاتعدو كونها اجتهادات بشرية في حدود ما سمح به السقف المعرفي في العصور الاولى. اما التشريع النبوي الانساني (الصادر من مقام النبوه)، فقد كان ينحصر في تقييد المطلق او اطلاق المقيد ضمن دائرة الحلال الواسعه. فالنبي معصوم عن الخطأ من مقام الرسالة فقط، وليس من مقام النبوة (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك...) – (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخره...). ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام (وللبشرية من بعده) حق الاجتهاد في التشريع الانساني الدنيوي، دون ان يعطي لذلك الاجتهاد صفة القداسة والشمولية والعالمية والابدية. وكانت تلك هي العلة الكبرى وراء كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين (أي لا نبي بعده). والا، فان البشرية كانت ستكون دائما بحاجة الى انبياء جدد. وباعطائه سبحانه وتعالى للبشرية ذلك الحق فقد قضى بان محمدا عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين. لذلك كله، فأن امة العرب والاسلام في حاجة ماسة اليوم الى قراءة جديدة للتنزيل الحكيم كتلك التي قام بها المفكر الكبير د. محمد شحرور، والتي من شأنها احداث ثورة فكرية دينية شاملة، لتتصحيح القناعات المجتمعيه للعقل العربي. نقول ذلك، مع تسليمنا الكامل بأن كل فكر جديد هو خاضع للقبول او الرفض او التصحيح او التخطئة. ولنتذكر دائما بأنه ليس كل رأي او فكر جديد هو دائما قادم من عدو. وعليه، فاني انصح وبشدة، بالاستماع والاطلاع المتعمق على أفكار هذا العبقري الملهم، لأني أرى فيها حقا احياء للأمة من بعد سباتها الطويل.