قضايا وآراء

مخاطر الإدارة الحالية للأزمة الأوكرانية على السلم الدولي

غازي دحمان
1300x600
1300x600
تهدد الأزمة الأوكرانية بالانتقال إلى مراحل أكثر خطورة، في ظل غياب أي مبادرة للحل أو إمكانية التوصل إلى مخرج دبلوماسي يوقف التداعيات الخطيرة التي باتت نذرها تلوح في الأفق. وإذ تبدو الأمم المتحدة عاجزة عن اتخاذ خطوات في هذا المسار المفجع نتيجة سيطرة الفاعلين الدوليين الأساسيين على إدارة اللعبة والتحكم بمجرياتها، فإن الأزمة تتحرك ضمن نطاقات واسعة من العبث والمجازفة، ورغم أن أجراس الخطر قُرعت بالفعل، إلا أن الاستجابات لا تزال شبه معدومة.

ما يزيد من نسبة الخطر في نمط إدارة الأزمة الأوكرانية، الذي اعتمده الفاعلون، أنه يقوم على أسلوب اللعب على حافة الهاوية، حيث يمارس كل طرف سياساته وردود فعله ضمن نطاقات تكون دائما على تماس مع الخطوط الحمر، المعلنة أو المضمرة، الأمر الذي يقلل مساحات المناورة إلى أبعد الحدود، في ظل تعطل قنوات التواصل، أو عدم فاعليتها، لاقتصارها على مستويات دنيا بين واشنطن وموسكو، بوصفهما اللاعبين الأساسيين في تحريك اللعبة.

ولعل الإشكالية التي تواجهها الأزمة الأوكرانية وتجعلها، على الأقل في المدى المنظور، بعيدة عن إمكانية المعالجة، وبالتالي إخراجها من الحيز الخطر، هي خروجها من كونها أزمة إقليمية تقتصر على النزاع بين روسيا وأوكرانيا، عبر تحميلها مهام جسيمة، حيث تسعى روسيا إلى جعل مخرجاتها معبراً لتغيير النظام العالمي بصيغته الحالية القائم على الأحادية القطبية بما تعنيه من سيطرة أمريكية على مخرجاته وفعالياته، في حين تعمل أمريكا على الحفاظ على هذه الوضعية، وفي سبيل ذلك تستثمر الحرب الأوكرانية لإنهاك روسيا واستنزاف طاقاتها إلى أبعد الحدود.
الإشكالية التي تواجهها الأزمة الأوكرانية وتجعلها، على الأقل في المدى المنظور، بعيدة عن إمكانية المعالجة، وبالتالي إخراجها من الحيز الخطر، هي خروجها من كونها أزمة إقليمية تقتصر على النزاع بين روسيا وأوكرانيا، عبر تحميلها مهام جسيمة

وبذلك، يصبح الصراع في أوكرانيا صراعاً الهدف المباشر منه إعادة توزيع القوة في النظام العالمي. وما يؤشر على هذا المعطى، حالة الاصطفاف التي بدأت تأخذ في التبلور مؤخرا، عبر امتناع مجموعة من الدول عن انتقاد روسيا على حربها في أوكرانيا، كالصين والهند وربما بقية دول مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي، مقابل دول أوروبا التي تتمترس خلف واشنطن، رغم المشاكل الاقتصادية والأمنية التي باتت تطرق أبوابها، ما يعني أن العالم بات يقف على عتبات تحول أمني يتمثل بالعودة لسياسات المحاور التي جرى الاعتقاد لفترة من الزمن أنها سياسات من زمن ماض وغير جميل.

على ذلك، يصبح من غير الصعب معرفة الديناميات التي باتت تتحكم بمسار الأزمة وتنذر بتطورها إلى أشكال جديدة من الصراع، من بينها المواجهة النووية التي ورد ذكرها مؤخراً، وخاصة في الخطاب الروسي. فنتيجة المواجهة أصبحت إلى حد بعيد المعيار الذي ستتحدد على أساسه أوزان اللاعبين الدوليين في المحورين المتقابلين، وبالتالي حجم فعاليتهم ومقدار حصصهم في النظام الدولي الجديد البازغ على دخان الحرب في أوكرانيا، وربما من سحاب الحرب النووية الذي ستصنعه القنابل التكتيكية أو الاستراتيجية الموعودة بها أوكرانيا وربما أجزاء من أوروبا.

لكن أخطر ما في سياسات إدارة الأزمة الأوكرانية، إدخال هذه الأزمة في نطاق العقائد الاستراتيجية للقوى النووية، وخاصة روسيا التي يبدو أن عقيدتها النووية تم تصميمها بدرجة ما لتنطبق على الأزمة الأوكرانية، وخاصة عبر البند الذي ينص على استعداد روسيا لاستخدام السلاح النووي إذا تعرض وجود الدولة إلى تهديد حقيقي. والإشكالية هنا تتمثل باتساع مساحة تفسير هذا التهديد، والذي قد يتضمن هزيمة روسيا في الحرب أو أي هجوم قد تقوم به أوكرانيا على المناطق التي أعلنت موسكو ضمها للسيادة الروسية، وباتت بالتالي تدخل ضمن البند الذي ينص على تعرض وجود الدولة للخطر.

الخطورة في ذلك، تقاطع هذه التطورات مع قناعة لدى النخب الروسية الحاكمة بأن الغرب يسعى إلى تفتيت الدولة الروسية وإنهاء وجودها، طمعا بثرواتها ومساحتها الجغرافية الهائلة، واعتقادا منه أن الديمغرافيا الروسية التي تتشكل من خليط قومي غير متجانس ستكون عاملاً مساعدا على إنجاز هذا الأمر. ويعزز هذا الإدراك الروسي حقيقة أن روسيا هي التي تعرضت على مدار القرنيين الماضيين إلى محاولات غزو خارجية بهدف احتلالها وتقسيمها.
البحث عن مقاربات جديدة تتضمن آليات مختلفة لإدارة الأزمة، من نوع إعطاء روسيا ضمانات بعدم تهديد أمنها من خلال حصار حلف الناتو لأراضيها من جهة أوروبا، ثم البدء بتفاهمات عاجلة، على الأقل حول قواعد الاشتباك في مرحلة أولى، على أن يتم تطويرها باتجاه تفاهمات أوسع في مرحلة لاحقة

وتلعب الدائرة المتطرفة التي تحيط ببوتين دوراً مهما في دفعه إلى تصعيد خطير في الأزمة الحالية، إذ تعتقد أن كسب الحرب والخروج من كابوس الهزيمة لا يمكن إلا برفع مستوى التهديد إلى حد بعيد، إذ تساعد الجغرافية الروسية الواسعة موسكو على تحمل تداعيات ونتائج حرب نووية، فيما ستتأثر أوروبا المكتظة وذات المساحات الصغيرة من أي مستوى من الحروب النووية.

هل يتراجع بوتين ويقبل الهزيمة؟ ليس من المرجح حصول ذلك، ففي حساباته أن مصيره ومصير النخب المسيطرة سيكون في مهب الريح.. هل يتراجع الغرب عن سياساته التصعيدية؟ الأغلب أن عواصم الغرب ما زالت تتمسك برهانات غير واقعية؛ من نوع إزاحة بوتين عن السلطة أو انشغاله بانهيارات داخلية على وشك الحصول.

ما الحل إذا؟ البحث عن مقاربات جديدة تتضمن آليات مختلفة لإدارة الأزمة، من نوع إعطاء روسيا ضمانات بعدم تهديد أمنها من خلال حصار حلف الناتو لأراضيها من جهة أوروبا، ثم البدء بتفاهمات عاجلة، على الأقل حول قواعد الاشتباك في مرحلة أولى، على أن يتم تطويرها باتجاه تفاهمات أوسع في مرحلة لاحقة، أما ترك المقادير تسير في أعنّتها، فذلك ليس له سوى معنى وربما نتيجة واحدة: السير بعيون مفتوحة صوب الهاوية.

twitter.com/ghazidahman1
التعليقات (0)