قضايا وآراء

الحجاب في إيران.. بين حسابات سلطة رجال الدين وتوظيف المعارضة (1)

عدنان زماني
1300x600
1300x600
الحجاب كان ولا يزال موضوعا ساخنا في إيران، وهو وسيلة كثيرا ما عُجنت بالصراعات السياسية سواء بعد ثورة عام 1979 بقيادة رجال الدين أو حتى قبل ذلك؛ عندما أعلن الشاه الأب عام 1936 عن فرض قانون يُلزم النساء بخلع الحجاب، متأثرا في ذلك بما شهدته تركيا من سياسات على صعيد المجتمع، فرضها قائد تركيا الجديدة بعد سقوط الخلافة العثمانية، مصطفى كمال أتاتورك.

لكن موضوع الحجاب في إيران بقي قضية سياسية اجتماعية، لم يستطع أي من الأطراف المتنازعين على السلطة حسمها لصالحه وإنهاء الجدل بشأنها، كما حدث في تركيا إلى حد بعيد. ولسنا هنا طبعا بصدد سرد تاريخي لموضوع الحجاب في إيران والحديث عن بداياته والخلفيات المتعلقة بالموضوع، إذ له جذور طويلة تعود إلى بداية القرن العشرين، وتحديدا مع اندلاع الثورة الدستورية (1905-1911).

نحاول في هذه السطور معرفة أبعاد الجانب السياسي لموضوع الحجاب في إيران بعد الثورة، ولماذا أصرت السلطة الجديدة بقيادة رجال الدين على فرضه على النساء بالرغم من التبعات المحتملة، كما سنناقش كيفية وأسباب لجوء معارضي نظام "الثورة الإسلامية" للحجاب، كوسيلة لمواجهة السلطة الحاكمة وهزيمة مشروعها السياسي والأيديولوجي، على أن نؤجل الحديث عن هذا الجزء الأخير (أي كيفية توظيف المعارضة لموضوع الحجاب في صراعها مع سلطة رجال الدين) إلى مقال آخر، لنستطيع الوقوف على أبعاد الموضوع بنطاق أوسع.
موضوع الحجاب في إيران بقي قضية سياسية اجتماعية، لم يستطع أي من الأطراف المتنازعين على السلطة حسمها لصالحه وإنهاء الجدل بشأنها، كما حدث في تركيا إلى حد بعيد


كان نظام الشاه الابن، محمد رضا بهلوي، الذي حكم إيران في الفترة ما بين 1941 وحتى عام 1979، يتسم بنوع من المرونة السياسية مقارنة مع حكم أبيه، كما كانت طريقة الشاه الابن في الحكم تختلف عن القيادات الجديدة التي حكمت إيران بعد الإطاحة بالنظام البهلوي، إذ إنه لم يوظف كثيرا القضايا الثقافية والاجتماعية في مشروعه السياسي، وركّز في المقابل على الجانب الاقتصادي في المقام الأول. وإلى حد كبير، اتسمت إيران في عهد محمد رضا شاه بنوع من الاستقرار السياسي، اللهم إلا فترة الاضطرابات القصيرة التي نجمت عن أحداث عام 1951 وحتى عام 1953، عندما انتهت بانقلاب عسكري أطاح بحكومة مصدق، وعاد الشاه إلى حكم البلاد بصلاحيات موسعة.

تراجع محمد رضا شاه عن قرار أبيه حول موضوع الحجاب عام 1944، ليصبح الموضوع مسألة شخصية في إيران لا تتدخل فيها السلطة بشكل سافر. وعاشت إيران أكثر من ثلاثة عقود من الزمن بهذه الحالة، وهو وقت كفيل بترسيخ ظاهرة اجتماعية في المجتمع كما تؤكد ذلك الدراسات الاجتماعية. ويمكن القول؛ إنه خلال هذه الفترة أصبح الموضوع مقصيا من دائرة اهتمام الإيرانيين سواء المؤيدين للحجاب أو المؤيدين للسفور، واستمر الحال حتى بعد انتصار الثورة ضد الشاه عام 1979، إذ لم يعلن أي من قادة إيران الجدد عن شكل معين في ارتداء الحجاب، بل ظهرت تصريحات لأكثر من مسؤول من المنتمين إلى الثورة تؤكد أن الحجاب يبقى مسألة شخصية، وأن الثورة الجديدة وإن جاءت بمظهر ديني، إلا أنها لن تفرض الحجاب أو غيره من القضايا على المجتمع. لكن بعد ذلك تبين أن هذه المواقف تجاه الحجاب كانت "تكتيكا مؤقتا" لأصحاب السلطة الجدد، إذ سرعان ما فرضوا الحجاب عبر مرحلتين؛ الأولى بدأت عام 1981 تمثلت في إجبار الموظفات في الدوائر الحكومية على ارتداء الحجاب، ومنع غير المحجبات من الدخول إلى مراكز الحكومة ودوائرها في عموم أرجاء إيران، وفي عام 1983 تم الإعلان عن فرض الحجاب على جميع النساء وفي الأماكن كافة، كمرحلة ثانية.


(آية الله طالقاني عام 1979 حول الحجاب: "لا إجبار في الحجاب"- صحيفة "اطلاعات" الإيرانية)

 

الحُكّام قليلا ما اعتنوا بالظواهر الاجتماعية التي لا تشكل مساسا بسلطتهم، ولا تجلب مصلحة لهم في ترسيخ حكمهم أو الحفاظ عليه، وهذا الأمر قد يتسع بالنسبة للحكومات المغلقة سياسيا كنظام ما بعد الثورة في إيران، إذ إنّ هذه الأنظمة تحاول جهدَها عدم الدخول في ساحات جديدة من الصراع المحتمل مع مواطنيها في الداخل

أهمية الحجاب للسلطة السياسية بعد الثورة في إيران

مراجعة التاريخ قديما وحديثا تكشف أن الحُكّام قليلا ما اعتنوا بالظواهر الاجتماعية التي لا تشكل مساسا بسلطتهم، ولا تجلب مصلحة لهم في ترسيخ حكمهم أو الحفاظ عليه، وهذا الأمر قد يتسع بالنسبة للحكومات المغلقة سياسيا كنظام ما بعد الثورة في إيران، إذ إنّ هذه الأنظمة تحاول جهدَها عدم الدخول في ساحات جديدة من الصراع المحتمل مع مواطنيها في الداخل، أو ممن يعارضون شكل نظامها من الدول الأخرى، كما تحاول أن تبقي على هذه الظواهر (التي لا تشكل عليها خطرا)، لكي تتظاهر بالتعددية والمرونة، خلافا لما يقوله خصومها والمعارضون لنظامها السياسي.

والحجاب كما أسلفنا لم يكن آنذاك وسيلة بيد خصوم النظام الجديد كما هو الحال اليوم، لكي تصر السلطة الجديدة على فرضه وهزيمة مشروع معارضي حكمها وسلطتها الجديدة، إذن فلماذا اعتنى النظام "ما بعد الثورة الإسلامية" بموضوع الحجاب كل هذا الاعتناء، وحوّله إلى مسألة مصيرية للسلطة السياسية، بالرغم من كل التبعات المحتملة والآثار الجانبية القريبة والبعيدة المدى؟ هل هي سياسة مقصودة ومخطط لها، أم إنها خطأ في الحسابات وقعت فيه السلطة الجديدة ولم تر بدّا من الاستمرار عليه؟

نظرا إلى فقدان المناخ النقدي على الساحة السياسية وعدم قدرة الباحثين عن مساءلة قادة الثورة الكبار وزعماء فكرة الحجاب الإلزامي، يصعب على الباحثين والمحللين إعطاء إجابات دقيقة عن الأسباب التي دفعت بقيادات الثورة إلى الركون إلى هذه السياسة والإصرار عليها حتى اليوم، بالرغم من الإقرار بفشل جميع السياسات القهرية في ترسيخ الحجاب بالشكل الذي تريده السلطة، وبالرغم أيضا من الآثار العكسية التي جلبتها سياسة القهر التي تعتمدها الجهات والمؤسسات المعنية بتطبيق قانون "الحجاب الإلزامي"، مثل "دوريات الإرشاد" وجمعيات "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
معرفة طبيعة الوضع السياسي والصراع الجهوي المبطن والمعلن، يسهّل علينا رصد جذور الإشكالية التي تكونت نُطفها آنذاك لتولد بعدها وتشب وتكبر، إلى أن تشيخ اليوم وتوشك على الهرم بفعل التجاذبات المرهقة والتآكل الشعبي لسلطة ما بعد الثورة؛ نتيجة الضغوط الاقتصادية والفشل على صعيد نشر ثقافة الثورة وأيديولوجيتها الدينية

لمعرفة الأسباب الحقيقية التي دفعت بحكّام إيران الجدد لفرض الحجاب الإلزامي على النساء في إيران، والدخول في دوامة من الجدل المستمر حتى يومنا هذا، لا بد أن نعود إلى المناخ والسياق السياسي الحاكم في إيران بعد الثورة، إذ إن معرفة طبيعة الوضع السياسي والصراع الجهوي المبطن والمعلن، يسهّل علينا رصد جذور الإشكالية التي تكونت نُطفها آنذاك لتولد بعدها وتشب وتكبر، إلى أن تشيخ اليوم وتوشك على الهرم بفعل التجاذبات المرهقة والتآكل الشعبي لسلطة ما بعد الثورة؛ نتيجة الضغوط الاقتصادية والفشل على صعيد نشر ثقافة الثورة وأيديولوجيتها الدينية.

وفي العودة إلى المناخ السياسي المسيطر على المشهد السياسي الإيراني بُعيد الثورة، نجد أن هناك تيارين كبيرين ومتكافئين إلى حد ما، فمن جهة نرى تيار "الليبراليين" بقيادة أبو حسن بني الصدر ومهدي بازرغان، وتيار "العقلانية الدينية" بقيادة شخصيات أمثال آية الله طالقاني وآية الله شريعتمداري وغيرهما؛ يشكلان تحالفا غير معلن، لمواجهة تيار المحافظين الراديكاليين بقيادة مرشد الثورة آية الله روح الله الخميني.

وما يجب إبرازه هنا، وهي ملاحظة مهمة ودقيقة، هو التفريق بين العلمانية بالمفهوم العربي والعلمانية التي كانت سائدة في إيران، حيث إن العلماني الإيراني المعاصر -الناشط داخل إيران على الأقل-، لم يكن أجنبيا على السلوك الديني ولم يدع صراحة إلى إقصاء الدين، كما يفعل العلمانيون العرب، بل إن أقصى ما يطالب به العلماني الإيراني، هو تحديد صلاحيات الدين ومراجع التقليد في السياسة. وهذا ما يجعلنا ربما نفضل مصطلح "العقلانية الدينية" على مصطلح "العلمانية المؤمنة"، كما استخدمه بعض الباحثين في وصف حال هذا التيار السياسي والفكري في إيران الحديثة.

محاولة إشغال معارضي السلطة السياسية بمعارك هامشية

إن معرفة حقيقة هذا الصراع السياسي وكواليسه كما مر قبلا، تُسهّل علينا ما نحن بصدده من الكشف عن الأسباب والخلفيات التي دفعت بقيادة إيران الدينية بعد الثورة لتبني فكرة "الحجاب الإلزامي"، إذ إننا نرى أن السبب الرئيسي لجنوح السلطة إلى هذه السياسة، هو محاولتها الانفراد بالسلطة السياسية من خلال إشغال المنافسين بمعارك وقضايا ثانوية، وضرب تيار "العقلانية الدينية" من خلال شق صفه، حيث سينقسم "العقلانيون" ما بين مؤيد لفكرة الخميني، ومعارض جهرا أو خفية.
بالنسبة لقضية الحجاب الإلزامي بالتحديد، فإننا نعتقد أنها كانت مقصودة تماما، ومحاولة من الحاكم الديني الجديد للانفراد بالمشهد السياسي وتفسير الخطاب الديني الشيعي، وما يترتب على ذلك من إقصاء رجال الدين الآخرين الذين كانوا ينافسون الخميني في قيادته للدولة الجديدة

كما يمكن اعتبار إصرار السلطة الدينية على الدخول في معركة الحجاب الإلزامي، تشتيتا لمحاور الصراع مع خصومها الأقوياء في بداية الثورة، ممثلين بالتيارات اليسارية والليبرالية، حيث كان الجدل الرئيس يدور حول صلاحيات الحاكم الديني وطريقة انتخابه ومدة بقائه في السلطة، وما إلى ذلك من قضايا تدور حول كرسي الحكم مباشرة، فأقحمت السلطة الدينية موضوع الحجاب الإلزامي لكي توسع دائرة الصراع، ومن ثم تخلق لها أدوات جديدة وتكسب وقتا أطول لترتيب شكل المعركة القادمة من الخصوم السياسيين. وقد عُرف عن السلطة الحاكمة في إيران بعد الثورة، أنها خاضت عددا من المعارك الهامشية للتشويش على خصومها والمعارضين في الداخل والخارج، حيث افتعلت أزمات كثيرة لم يكن الكثيرون يتوقعون حدوثها، مثل أزمة الرهائن الأمريكيين وإطالة أمدها، والإصرار على الاستمرار في الحرب مع العراق لتمتد إلى ثماني سنوات. وهذه الأزمات كانت بتقديرنا محاولة من النظام الجديد للتشويش على الخصوم، وإشغال الرأي العام بقضايا تحتل أهمية ثانوية بالنسبة لأهداف الثورة على صعيد السياسة والاقتصاد.

ونحن لا نرى ما يراه بعض الباحثين من اعتقاد بأن السلطة الإيرانية في بداية الثورة ممثلة بالمرشد الخميني والمقربين منه؛ قد أخطؤوا في التقدير عندما ظنوا أن الأكثرية الساحقة من الشعب أو الشعوب الإيرانية، سوف تقتنع بفكرة الحجاب الإلزامي وتركن إليه، ومن ثم فإن إصرارهم على هذه السياسة، كان خطأ في تقدير السلطة وحساباتها، وليس سياسة مقصودة ومتوقعة النتائج والآثار. لا نعتقد ذلك وإن كنا لا ننفي تماما وجود بعض الأخطاء الحسابية من السلطة في بداية الثورة، وهي مرحلة تكثر فيها الأخطاء في العادة. لكن بالنسبة لقضية الحجاب الإلزامي بالتحديد، فإننا نعتقد أنها كانت مقصودة تماما، ومحاولة من الحاكم الديني الجديد للانفراد بالمشهد السياسي وتفسير الخطاب الديني الشيعي، وما يترتب على ذلك من إقصاء رجال الدين الآخرين الذين كانوا ينافسون الخميني في قيادته للدولة الجديدة، أمثال طالقاني وشريعتمداري ومنتظري؛ الذين جميعا قد اتخذوا مواقف معارضة بنسب مختلفة تجاه ما قام به الخميني من سياسات على صعيد الداخل والخارج.
التعليقات (0)