مقالات مختارة

عبد الكريم قاسم… أسطورة الزعيم وحكاياته الخيالية

صادق الطائي
1300x600
1300x600

هذا مقال، سبقته مقالات تناولت فيها شخصيات بالآلية نفسها، ليست الغاية منه تمحيص الدقة التاريخية في ما سيرد من حكايات وقصص، بل الغاية تبيان آلية أسطرة شخصيات من تاريخنا القريب، الذي عاشه أناس ما زالوا يعيشون معنا، ومع ذلك يتم تداول الحكايات العجائبية الواصفة لتلك الحقبة على أنها حقائق لا يمكن إنكارها.


في البدء لا بد من الإشارة إلى الصفة التي يبدو أن قاسم كان يحبذها، لذلك التصقت باسمه، على الرغم من كونها متأتية من رتبته العسكرية، حيث كان عبد الكريم قاسم برتبة زعيم، هذه الرتبة التي تم تغيير تسميتها لاحقا لتصبح عميدا، لكن تسمية أو صفة (الزعيم) بقيت مرتبطة بقاسم، والمفارقة أنه لم يحمل هذه الرتبة وهو في سدة الحكم سوى ستة أشهر فقط، إذ ترفع إلى رتبة لواء في 6 كانون الثاني/يناير 1959 بعد أقل من ستة أشهر على الانقلاب، وبقي يحمل هذه الرتبة طوال فترة حكمه تقريبا، ثم ترفع إلى رتبة فريق في 6 كانون الثاني/يناير 1963، أي شهر واحد قبل مقتله، بمعنى أن الأولى كان تسميته اللواء عبد الكريم قاسم، لكن لا أحد يشير لرئيس الوزراء سوى بصفة (الزعيم) لدلالتها اللغوية، وقد شاعت حينذاك أهزوجة شهيرة هي (ماكو زعيم إلا كريم)، أي لا يوجد زعيم إلا عبد الكريم قاسم، أو ببساطة الزعيم الأوحد كما كان يوصف.

 

ولأن الرجل متحدر من عائلة فقيرة، وعاش حياة الكفاف حتى بعد أن دخل الحياة العسكرية وأصبح ضابطا، لذلك نجده زاهدا متعففا في طريقة حياته، وفي مأكله وملبسه وتنقلاته، فكان يأكل ما يجلب له من بيت أخيه من طعام، أو يتناول هو وضيوفه الكباب العراقي المشوي الذي يجلب لهم من المطاعم الشعبية المنتشرة في منطقة الميدان، قرب وزارة الدفاع، حيث مكتب رئيس الوزراء الذي يوجد فيه قاسم طوال يوم عمله، ومن هذه النقطة وردت الحكايات والطرائف عن (سفرطاس الزعيم)، هو مجموعة الأواني التي يجلب له فيها الرز والمرق وكباب الطاوة من بيت أخيه حامد، هذا «السفرطاس» الذي استحال إلى أيقونة للزهد والبساطة في عيون محبيه. أما القصص التي يختلط فيها الخيالي بالحقيقي، فقد قيل الكثير منها عن شخصيات هامشية من البسطاء التقاهم عبد الكريم قاسم في جولاته الليلية التي تسرد حكاياتها بطريقة تّذكر بشخصيات تاريخية، مثل الخلفاء الراشدين الذي يطلعون على أمور رعيتهم وهم متخفون. وربما كانت أشهر هذه القصص قصة الأرملة التي كانت تعيش في خيمة في قطعة أرضها الممنوحة لها في مدينة الثورة، من دون أن تتمكن من بنائها، إذ تروى الحكاية، أن قاسم دخل عليها الخيمة مع مرافقه وسألها لماذا لم تبن بيتها مثل الآخرين؟ فقالت له من دون أن تعرفه، إن (ابو أذان) وهذه إحدى التسميات الساخرة من الزعيم، أعطانا الأرض ولم يعطنا الفلوس لنبنيها، فما كان منه إلا أن كتب لها ورقة، وقال لها «يا أمي تأخذين هذه الورقة إلى البلدية وهم يبنون لك أرضك مجانا، فقالت له :وإذا سألوني من كتب هذه الورقة فماذا أقول لهم؟ فأجابها: قولي لهم (أبو أذان) كتبها لي. وتمحيص الأمر لا يحتاج جهدا كبيرا لمعرفة حقيقة أن ترحيل سكان الصرائف وتوزيع أراضي مدينة الثورة عليهم ومباشرتهم ببناء المنازل فيها، كان قد تم في عهد عبد السلام عارف، الذي استكمل ما بدأه قاسم من مشروع، لكن إعدامه، بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963 حال دون أن يرى حلمه يتحقق. أما قصص تعففه عن المديح وزهده في ما يكال له من صفات، فنجد أشهر حكاية تم تناقلها عن إحدى جولات الزعيم ووقوفه عند أحد الأفران، الذي رفع صاحبه صورة كبيرة للزعيم، قارن قاسم بين حجم الرغيف الذي كان صغيرا، وحجم صورته التي كانت كبيرة جدا، فقال لصاحب الفرن (كبر الرغيف وصغر صورتي)، وقد دخلت تلك العبارة المخيال العراقي، وصارت تحكى كمثال للعدالة الاجتماعية.


أما الحكايات التي تروى عمن يلتقيهم الزعيم من المعوزين والمعدمين في جولاته، فكثيرة جدا ومتشابهة في أكثر الحالات، وتقوم بنية الحكاية على سؤال الزعيم لهم وهو يخفي شخصيته الحقيقية، ثم يساعدهم بطريقة العصا السحرية ويحل مشاكلهم، ومن الحكايات النموذجية لذلك حكاية الزعيم وبائعة «القيمر» (القشطة) التي تروى على لسان مرافق الزعيم الذي يسردها بصيغة: أنه كان مع الزعيم في جولة ليلية من ليالي الشتاء الباردة، وكان الزعيم يرتدي معطفا عسكريا بلا رتب عسكرية، وصلوا إلى مرآب علاوي الحلة فجرا، وقرر الزعيم أن نتناول فطورنا عند امراة عجوز تبيع «القيمر» مع الشاي، إذ جلس الزعيم قبالة المرأة وهي لم تعرفه، وهنا سألها الزعيم: أين تسكنين وهل لك زوج أو معيل؟ لترد عليه، لي زوج تعوّق نتيجة إصابته في حرب فلسطين، ونحن نسكن في صريفة بنيت من طين في منطقة الوشاش، وأنا أعمل مع ابنتيّ الاثنتين في هذه المهنة منذ خمس سنوات. فرد عليها الزعيم: وهل شكوت حالك للزعيم؟ فردت عليه المرأة بعصبية ( انعل أبو الزعيم ). فقال لها (يمه أنا صديق الزعيم وهاي ورقة مكتوبة له، وإن شاء الله الزعيم ما راح يقصر وياج). وبعد أيام، تأتي المرأة لمكتب رئيس الوزراء في وزارة الدفاع، فيقابلها باشا مرحبا، ويمنحها راتب زوجها التقاعدي المستحق، كما يمنحها بيتا في منطقة الطوبجي، بل يمنحها كل ما في جيبه وكان المبلغ 17 دينارا. وهنا نحن أمام نمط من الحكايات يرسخ حالة تحتفي بحل الزعيم للمشاكل بطريقته السحرية، ولا تسأل عن اختفاء القوانين التي يجب أن تسيّر حياة المواطنين، من دون الحاجة إلى صدفة يلتقي فيها المحتاج برئيس الحكومة ليحل له مشاكله.


أما عبقرية الزعيم، فإن أكثر الحكايات دلالة عليها ما يروى عن عبقرية عبد الكريم قاسم العسكرية، التي تروى على لسان عميد أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية، إذ تقول الحكاية؛ إنه روى لبعض الطلبة العراقيين حكاية حدثت في إحدى السنوات «حين قدم إلى الأكاديمية ضابط عراقي لدراسة الأركان، كنا نتابعه عن كثب لذكائه وتفوقه على أقرانه، وكان المعتاد في نهاية الدراسة أن يطلب من كل طالب أن يقدم خطة عسكرية لطريقة احتلال عاصمة بلده، فما كان من الطالب العراقي، إلا أن قدّم خطته العسكرية لاحتلال لندن وليس بغداد، وكانت خطة محكمة بدقة عالية لا يمكن أن يرسمها ويضع تفاصيلها إلا ضابط أركان بريطاني». وأصيب ضباط الأركان البريطانيين بالدهشة والتعجب مما قدمه الطالب عبد الكريم قاسم، الذي كان الأول على دفعته في الأكاديمية. طبعا الجانب الأسطوري من الحكاية واضح جدا، وهذه الحكاية ذاتها قيلت عن ضباط عرب آخرين منهم الفريق سوار الذهب، ويجب أن نعلم أن قاسم درس في كلية الأركان العراقية وقد تخرج فيها عام 1941، ولم يدرس في ساندهيرست، وإنما دخل عام 1950 دورة تعبئة في لندن لمدة شهرين فقط.
أما الجانب الماورائي والحماية الإلهية للزعيم، فيوردها الكاتب زيد خلدون جميل في مقال مستذكرا حواره مع أستاذ جامعي، يروج لحكاية أسطورية عن نجاة الزعيم من محاولة الاغتيال عام 1959 مفادها؛ «إن ملاكا حرس الزعيم ذلك اليوم»، إذ يقول الراوي، «بعد فرار منفذي محاولة الاغتيال، فتح الجمهور باب السيارة وشاهدوا في داخلها رجلا أبيض اللون والشعر، ومرتديا معطفا أبيض وهو يحتضن عبدالكريم قاسم، مغطيا إياه تماما، وبهذا الشكل حماه من وابل الرصاص الموجه إليه، فقد كان ذلك الرجل ملاكا مرسلا»، وطبعا لم يحر المتحدث جوابا عندما سُئل عن ذلك الملاك وعدم حمايته الزعيم عندما تعرض للإعدام يوم 10 شباط/فبراير 1963. وامتدادا لماورائية شخصية الزعيم وبسبب عدم وجود قبر محدد له، يمكننا فهم حكايات عن عدم مقتله، إذ شاعت عدة حكايات عن ظهور الزعيم وهو يقاتل في الأهوار مرة، وفي مناطق أخرى من العراق مرات، وصولا إلى الحكاية الأكثر شهرة التي روجها محبوه، والتي تحكي رؤيتهم صورته منعكسة على القمر. ولم يكن قاسم البطل الوحيد لهذا النمط من الحكايات، إنما سبقه ولحقه العديد من الشخصيات التي تمت أسطرتها.

 

القدس العربي


1
التعليقات (1)
Naz?m
الأحد، 23-10-2022 09:08 م
عيب عليك تنتقص من شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم