كتب

حب السلطة الذي يعمي ويصمّ.. زعماء عرب استهدفتهم الثورات

قراءة هادئة في أسباب تمسك الزعماء العرب بمواقعهم رغم ثورات الشعوب ضدهم
قراءة هادئة في أسباب تمسك الزعماء العرب بمواقعهم رغم ثورات الشعوب ضدهم

الكتاب: مهوسون في السلطة: تحليل نفسي لزعماء استهدفتهم ثورات 2011.
الكاتبة: موريال ميراك ـ فايسباخ 
عدد الصفحات: 148 صفحة
الناشر: شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، 2012 بيروت


تشابهت أقدار عديد الزعماء العرب في أثناء الثورات العربية، فكانوا يستسلمون لتيار الاحتجاجات، وهي تعميهم عن تجارب أسلافهم التي تلقي على الجميع دروسا بليغة، وتدفع بهم إلى أقدارهم التراجيدية بعد أن شرّدت أسرهم ودمرت أوطانهم التي يدّعون أنهم بانوها ثم يسيرون إلى حتفهم، فيدفعنا إصرارهم هذا إلى تدبّر بناء شخصياتهم النّفسية لفهم الأسباب العميقة لهذا السلوك المرضي. وهذا ما انتبهت إليه الكاتبة موريال ميراك- فايسباخ، الأمريكية من أصول أرمينية، المتخصّصة في القضايا العربية والإسلامية على الصعيدين الثقافي والسياسي، فحاولت في كتابها " مهوسون في السلطة: تحليل نفسي لزعماء استهدفتهم ثورات 2011"، أن تجد إجابة مقنعة لهذا السؤال العصيّ.

1 ـ رؤساء يتربّعون على عروشهم في لا مبالاة رغم الخطر الدّاهم

تنطلق الباحثة من مصادرة كرّستها التجارب العالمية، مدارها على أنّ لا سلاح يمكن أن يتغلب على إرادة الشعوب حينما تقرّر استعدادها للموت من أجل قضية تؤمن بها. وتذكر نماذج من التجارب الإنسانية في أصقاع مختلفة من العالم تؤكّد ذلك. ثم تذكّر بالسياق السياسي والاجتماعي لثورات الربيع العربي. فتتوقف عند عدم استيعاب القادة العرب لهذه الحقيقة، رغم ما تتّسم به من بداهة. 

ولئن قدّر المحلّلون السياسيون رعونة هؤلاء، فبدل تغيير السياسة على الأرض واتّخاذ الإجراءات الحاسمة، لعب بن علي على مشاعر شعبه وخاطبهم لأول مرة بالعامية للإيهام بالقرب منهم، مدّعيا فهمه لهم. فيما لعب مبارك على عامل الوقت، معوّلا على فتور العزم بمرور الأيام. فإن الباحثة تجد هذه التفسيرات سطحية. وتقدر أنّ فهم الظاهرة الفهم العميق لا بدّ أن يكون من منطلق علم النفس التحليلي، وأن يخضع لمقاربات نفسية تاريخية وللتحليل النّفسي التّطبيقي. 

2 ـ نرجس على العرش

ويرجع الاصطلاح إلى أسطورة نرجس الإغريقية التي تسرد حكاية رجل وسيم وقع في عشق صورته المنعكسة على ماء النهر، وأصبح عبدا لها حتى انصرف عن المعجبات من حوله، ثم هلك وجدا. وبعد دفنه نبتت من قبره زهرة النرجس. وكذا شأن القادة العرب الذين استهدفتهم الثورات العربية. فرغم مظاهر العظمة والقوة التي يحيطون بها أنفسهم، لم يكونوا في الحقيقة غير أشخاص بائسين يعانون نرجسيتهم المفرطة، وينصرفون إلى عشق صورهم حتى الهلاك. والشخصية النّرجسية، في تقديمها الذي يعوّل على عديد المراجع العلمية، مظهر مرضي يصيب الإنسان، خاصة مَن تسلق السّلم الاجتماعي والوظيفي والإبداعي.

يفقد المرء مناعة ضد النرجسية أكثر إذا ما تسلّق هرم السلطة. فقد أثبتت التجارب أنّ النزعات النرجسية تنبجس عند الشخص العادي حالما يجلس إلى كرسيّ الحكم. فتكاد تكون سمة ملازمة للوظيفة السياسية. والعكس صحيح أيضا. فكثيرا ما يكون الوصول إلى قمّة السّلطة نتيجة لهذا البعد المرضي؛  أي نتيجة لرغبة الشخصية النرجسية في إشباع حاجتها إلى حصد الإعجاب والاعتراف والحب. وهل من منصّة أفضل من كرسيّ الحكم لعرض الذّات على الملأ وجلب الاهتمام لها؟!

3 ـ الشخصية النرجسية، شخصيات هيستيرية أيضا

تمعن الشخصية النرجسية في التغنّي بالمستقبل الزاهر، رغم كل مظاهر الانحطاط والتدهور الناتجة عن سياساتها، وتعمل على التمسك بالشباب الخالد عبر عمليات التجميل أو صباغة الشعر أو ملء الشوارع بصورها لمّا كانت في عنفوان القوة والشّباب. ولعلّ ذلك أن يكون نتيجة لخشيتها المستمرة من أن تسرق منها الأضواء. وفي الآن نفسه، تكون شخصية هشّة سريع كسرها. فحالما تلاحظ تراجعا في الاهتمام بها يتحوّل الشعور بالتفوّق والعظمة إلى الشعور بالنقص وفقدان للتوازن، يغذيّان سلوكها العدواني ونزعتها إلى البطش وميلها إلى الحط من الآخرين. 

 

أثبتت التجارب أنّ النزعات النرجسية تنبجس عند الشخص العادي حالما يجلس إلى كرسيّ الحكم. فتكاد تكون سمة ملازمة للوظيفة السياسية. والعكس صحيح أيضا. فكثيرا ما يكون الوصول إلى قمّة السّلطة نتيجة لهذا البعد المرضي.

 



ولما كان النرجسيون لا يحتملون الانتقاد، كثيرا ما يحيطون أنفسهم بالرجال الذين يوافقونهم الرأي دائما؛ فذلك يحمي ذواتهم الهشة من الجراح ويلبي شعورهم بكونهم محبوبين ومهابين. وكل من ينتقدهم أو يشكك في سياسساتهم يُعرّض إلى ضغط اجتماعي هائل. 

وتغذي علاقتهم بالجماهير هذه النزعة النرجسية المرضية؛ فالأفراد حالما ينضمون إلى الحشود يفقدون صفاتهم باعتبارهم أفرادا مستقلين، وينخرطون في شخصية جماعية تستلهم روح الزعيم وتسقط عليها مثاليات الأنا العليا. ولكن كثيرا ما يؤول الأمر إلى انحرافات خطيرة فترتكب أخطر التجاوزات باسمهم: الإبادة الجماعية والتّطهير العرقي خاصّة.

4 ـ معمر القذافي ملك الملوك

تجد موريال ميراك ـ فايسباخ في شخصية معمّر القذافي المثال الدّراسي الأكمل للنرجسية والهستيريا وجنون العظمة. فتعرض شهادات كثيرة لرؤساء يؤكدون زعمها. منها تصريح السادات 1975 بأنّ "القذافي مجنون مائة بالمائة. لقد سكنه شيطان ويتخيّل أشياء ليست صحيحة". وقول تحسين بشير الديبلوماسي المصري والمتحدث باسم عبد الناصر عنه بأنه "دينامي بطريقة مزعجة، كصبي صغير ضال". وقول محمد حسنين: "القذافي كالبدوي، يمكنه أن ينتقل في أي لحظة من موقف إلى موقف آخر مناقض تماما". ووصف ريغن 1986 له بالكلب المسعور. 

ولئن مثلت أغلب تصريحات السّاسة مناكفات سياسية أكثر من كونها تشخيصا سريريا، فإنّ دراسات المخابرات الأمريكية التي لا شكّ استندت إلى معطيات علمية، تخلص إلى أنه "زعيم نرجسي من الدرجة الأولى.. تستحوذ عليه أحلام الشهرة".
 
ولعلّ تحويله لقصف القوات الأمريكية لمقر إقامته سنة 1986 لموضوع للتبجّح أن يؤكد ذلك. فقد كان يتحدّث عن 170 طائرة تقصف منزله متسائلا: "هل لأن معمر القذافي رئيس جمهورية؟ لو كان رئيسا لعاملوه مثلما عاملوا رؤساء الدول الأخرى. ولكن لأن معمر القذافي تاريخ مقاومة، تحرر، مجد، ثورة. وهذا اعتراف من أكبر دول العالم بأن معمر القذافي ليس رئيسا يمكن أن نقتله بالسّم أو نطلق ضده تظاهرة تسقطه"، كما تجد في مدح الذات في ضرب من الهذيان والهلوسة دليلا آخر على ما تزعمه.

 

لما كان النرجسيون لا يحتملون الانتقاد، كثيرا ما يحيطون أنفسهم بالرجال الذين يوافقونهم الرأي دائما؛ فذلك يحمي ذواتهم الهشة من الجراح ويلبي شعورهم بكونهم محبوبين ومهابين. وكل من ينتقدهم أو يشكك في سياسساتهم يُعرّض إلى ضغط اجتماعي هائل.

 



يقول وطائراته تحصد الأبرياء في بنغازي أيام الثورة: "إذا لم يحب الشعب العربي والشعب الأفريقي وسائر الشعوب معمّر القذافي، فلا يستحق معمر القذافي العيش ولو ليوم واحد". وهذا طبيعي أليس هو "قائد الثورة " و"ملك ملوك شمال أفريقيا" و"عميد الملوك والرؤساء العرب" و"إمام المسلمين معمر القذافي" و"زعيم القيادة الشعبية الإسلامية العالمية"؟ والعجيب أنه يعلن في أثناء الثورة أنه لا يحمل أي لقب ولا يشغل أي منصب، فكيف يطلبون منه الاستقالة؟

ويجد دارسوه في حكاية المطرية دليلا قاطعا على جنون الرّجل. وتريد الباحثة بالحكايةِ المشهدَ الذي بُثّ على القناة الرسمية إبان الثورة الليبية، وقد فتحت أمامه مظلة شاطئ عظيمة الحجم، وهو يعلم الصحفيين بأنه كان ينوي النزول إلى الشارع للتحدث مع المتظاهرين، ولكن المطر منعه من ذلك. فـ"المختصر هو أنّ الرّجل مصاب بمرض عقلي خطير، وهذه حقيقة تكفي لتبرير مغادرته السلطة السياسية". 

والإشكال الذي يواجهها هنا، هو هل أن الرجل هو مجنون منذ وصوله إلى السلطة أم إنه جن بها وبسبب ممارستها، وهل جنونه هو خلل عقلي أم جنون العظمة؟ لا تجيب عن السؤال وتكتفي بتصنيفه ضمن النرجسيات الخبيثة، تلك التي تعيش أوهام العظمة وبسببها تحترف الكذب، وتفرز الأشخاص الذين تتعامل معهم وفق قاعدة صديق عدو، وتتعامل مع الأعداء بالحد الأقصى من الازدراء. 

5 ـ مبارك: رعمسيس المعاصر

يعمل العُصابي عند حدوث صدمة تهدد كيانه على الادعاء الارتكاسي بالموت، وهي ردة فعل انهيارية تتضمن الانطواء على النّفس والانسحاب إلى مسافة ما في الخلف، محاولا تبرير سلوكه بما لا يمتّ للواقع بصلة، مبديا السخط والغضب من المتآمرين عليه، مظهرا شكلا من أشكال الانفصام. وهذا ما ينطبق تماما على حسني مبارك الرئيس المصري أوان الثورة؛ فقد آثر الهروب إلى شاطئ شرم الشيخ بعيدا عن الأنظار، والمواجهات على أشدّها. ولم يتحدّث إلى الشعب إلا بعد مقتل أكثر من مائة متظاهر.

وحين أعلن التلفزيون أنه سيلقي كلمة، جعل الشّعب ينتظره لساعات في التاسع والعشرين من كانون الثاني، ليظهر بعد منتصف الليل مدّعيا أن الحكومة سمحت للناس بالتّعبير عن الرأي، ولينخرط في سلسلة من الأكاذيب نحو مطالبته بالحوار الذي أجهضه "الفوضويون الذين يثيرون الشغب" أو عدم تمسكه بالسلطة "رغم أنه لم يـكن يوما طالب سلطة- ولم ـ[يكن [ينوي الترشّح لفترة رئاسية جديدة"، متجاهلا الأسباب العميقة للثورة التي تعمل على اقتلاع نظامه من أسسه، والتصدي لعملية التوريث الحثيثة وقتها.
  
وكما فعل القذافي، لم تخل إطلالته من الثّناء على الذات ونكران المسؤولية في ما تعيشه مصر، قائلا: "لم أسع يوما إلى السّلطة أو شعبية زائفة، وأثق أنّ الأغلبية تعرف من هو حسني مبارك"، مظهرا ذلك الشعور بالنّقص الذي تعانيه الشخصية النرجسية عندما يُعرض عنها [محبوها] قائلا: "يؤلمني رؤية كيف يعاملني أبناء بلدي اليوم".. ليعود من جديد إلى الادعاء الارتكاسي بالموت ويختفي حتى العاشر من شباط/ فبراير. 

وتجد الباحثة نرجسية الحكّام في مصر متأصلة، فقد ورثها مبارك من أسلافه في الحكم الذين كرّسوا عبادة شخصية الحاكم، بل تعود بالظّاهرة إلى التاريخ المصري القديم. فقد نقل هيكل عن السادات قوله: " أنا وعبد الناصر آخر الفراعنة العظام في تاريخ مصر"، وقوله لكراتر؛ "إن الناس ينظرون إليّ على أنني خليفة جمال عبد الناصر، وذلك ليس صحيحا. فأنا لا أحكم مصر طبقا لأسلوبه، ولكن أحكمها طبقا لأسلوب رعمسيس الثّاني". ثم سحب مبارك لقب آخر الفراعنة على نفسه. وأطلق يد العائلة إلى المال العام ولتكسب الثروات الطائلة.

6 ـ زين العابدين بن علي وليلى الطرابلسي: مرايا النرجس

تجد الباحثة نرجسية بن علي في ذلك الملك الضليل الذي يرفض الاعتراف بانهيار سلطته. ولكن عند دراسة شخصيته ينزلق قلمها سريعا ليركّز على زوجته ليلى الطرابلسي أكثر. فيحّلل شخصيتها بداية من طفولتها البائسة إلى محاولتها ارتقاء السلم الاجتماعي بطرق مشروعة وأخلاقية واخرى غير أخلاقية وغير مشروعة، وينتهي إلى أن بن علي كان ضحية لمخططها. فقد استعملته لتأمين مقتضيات نرجسيتها. وصادفت رغبتها تلك رئيسا مكتئبا يبحث عن السعادة خارج غرفة نومه، والنرجسي مكتئب بطبعه: "وقد يعمد المرء في حالات كهذه إلى إسقاط صورة السيدة المومس على شريكته". وحدث ذلك، وفق الباحثة، في المرحلة الثالثة من حكمه، بعد أن ثبّت نفسه حاكما مصلحا وعادلا  مباشرة بعد الانقلاب، في المرحلة الأولى، وانصرف إلى المواجهة مع الإسلاميين في المرحلة الثانية. فتشابهت مرايا النّرجس، وجعل كلّ منهما يرى ذاته في مرآة الآخر.

7 ـ "مهوسون في السلطة" وبعد؟

تعوّل الباحثة في فهم شخصيات القادة العرب على مبدأ فرويد القائل بأن الطّفل أب الرّجل، وبأن مختلف سمات شخصية المرء تتحدّد خلال سنوات طفولته الأولى. فتعود بالانحراف الذي يصيب أغلب القادة العرب إلى "الطفولة البائسة" و"ماضي الفقر والحرمان". ولا تخلو المقاربة من تبسيط مخلّ. فالسواد الأعظم من الشّعوب العربية ينحدر من أصول اجتماعية متدنية طبقيا، وهذا بديهي. فاستئثار المستعمر بخيرات البلاد فقّر الجميع وجعل الجيل الأول الذي أسس "الدولة الوطنية" والجيل اللاحق به الذي يمسك بمختلف الوظائف السياسية والإدارية، ينشأ في بيئة فقيرة، فهل يعني ذلك أنّنا جميعا شخصيات نرجسية عصابيّة؟ 

وفضلا عن ذلك كثيرا ما تبتعد الباحثة عن الدراسة الرصينة لتعوّل على الروايات غير المؤكدة والحكايات المستلذة التي يصنعها المخيال، التي تحقق ضربا من الانتقام والشعور بالانتصار لراويها أكثر من تقديمها للحقيقة. أما المسألة، فيما نعتقد، فعلى صلة بالسياق الحضاري والسياسي وببناء الشخصية الجماعية، وبمدى علوية القانون في البلدان العربية أكثر من كونها ظاهرة فردية عصابية صرفا. ولعلّ السؤال أن يطرح بشكل مغاير. فلماذا تتضخم هذه النرجسيات في بلدان العالم الثّالث وتحاصر في البلدان المتقدمة الرّاسخة في الديمقراطية؟

فالمسألة شائكة تحتاج إلى بحث أعمق، يستثمر منجزات علم النفس وعلم الاجتماع والإنتروبوجيا والتّاريخ. والتّخلص منها رهين بإنفاذ القانون واحترام مؤسسات الدولة.


التعليقات (1)
Hasan Aswad
الجمعة، 05-11-2021 11:09 م
والبقية مثل بشار الأسد ماذاعنه ؟ ! هل هومنتخب من الشعب أم جاء بتغيير الدستورب 5 دقائق وبقوة السلاح ؟