كتاب عربي 21

أمريكا لا تريد الاستقرار في أفغانستان

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
يؤكد سلوك الولايات المتحدة الأمريكية منذ انسحابها من أفغانستان أنها لا تريد للبلد الأفقر في العالم الاستقرار، فقد استثمرت أمريكا قوتها وهيمنتها العالمية لضمان عدم الاعتراف السياسي الدولي بنظام "إمارة أفغانستان الإسلامية" بقيادة حركة طالبان، وعملت على عزل أفغانستان عن النظام المالي العالمي.

وبات واضحاً أن الولايات المتحدة تهدف إلى نشر الفوضى في أفغانستان لاستغلالها ضد خصومها في آسيا، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، بل اعتبرت إدارة بايدن أن الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكبر في القرن الحادي والعشرين على حساب مكافحة الإرهاب. وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أشار إلى تلك الحقيقة في خطاب تبرير الانسحاب في 16 آب/ أغسطس 2021، حين قال: "لن يروق شيء لمنافسينا الاستراتيجيين الحقيقيين، أي الصين وروسيا، أكثر من مواصلة الولايات المتحدة ضخ مليارات الدولارات من الموارد والاهتمام لإرساء الاستقرار في أفغانستان، وذلك حتى أجل غير مسمى".

لقد جاءت الإشارة إلى رغبة واشنطن بعدم استقرار أفغانستان وخلق فوضى ضد خصومها بصورة أكثر وضوحاً؛ عندما سُئل الرئيس الأمريكي جو بايدن في 8 أيلول/ سبتمبر 2021 من قبل المراسلين حول العلاقات المستقبلية بين حركة طالبان والصين، حيث أظهر شماتة خالصة قائلاً: "الصين لديها مشكلة حقيقية مع طالبان". وأضاف: "ليست الصين وحدها، بل روسيا وإيران وباكستان أيضاً. إنها جميعها تحاول معرفة ما ستفعله الآن. لذا سيكون من المثير للاهتمام أن نرى ما سيحدث".
بات واضحاً أن الولايات المتحدة تهدف إلى نشر الفوضى في أفغانستان لاستغلالها ضد خصومها في آسيا، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، بل اعتبرت إدارة بايدن أن الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكبر في القرن الحادي والعشرين على حساب مكافحة الإرهاب

ولذلك تصر الولايات المتحدة على تصنيف حركة طالبان منظمة إرهابية، لضمان عزلتها السياسية والمالية عن النظام الدولي. فمع وصول طالبان إلى السلطة، تحركت الولايات المتحدة بسرعة لمنع وصوله 9.5 مليار دولار من الأموال الاحتياطية الدولية، وضغطت على صندوق النقد الدولي لتعليق تحويل أكثر من 400 مليون دولار من الاحتياطيات النقدية. وتستخدم الولايات المتحدة نفوذها وهيمنها العالمية وأدواتها السياسية والمالية. وقد قال متحدث باسم صندوق النقد، في بيان: "كما هو الحال دائما، فإن صندوق النقد الدولي يسترشد بآراء المجتمع الدولي.. يوجد حاليا عدم وضوح داخل المجتمع الدولي في ما يتعلق بالاعتراف بحكومة في أفغانستان، ونتيجة لذلك فإن هذا البلد لا يمكنه الوصول إلى حقوق السحب الخاصة أو أي موارد أخرى لصندوق النقد الدولي".

تمثل سياسة الضغوطات الاقتصادية الأمريكية التي تمارسها على الدول والكيانات والأشخاص أحد أوجه وخصائص الإمبريالية الأمريكية، لضمان الهيمنة العالمية، فهي تكيّف النظام المالي العالمي وفقا لقوانينها المحلية. إذ تمتلك الولايات المتحدة حق الوصول إلى بيانات المستخدمين ونقل معلومات من بنوك أوروبية عديدة عن طريق جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وتفرض أمريكا عقوبات على بلدان وشركات وأشخاص بذريعة الفساد أو انتهاك الحظر الذي تفرضه حسب مصالحها. كما تحدد الولايات المتحدة ماهية دولة أو كيان أو شخصيات بناء على مصالحها، فتحت ذريعة الإرهاب الذي هو كل ما يقف بوجه أمريكا، يمكن أن تشن حروب أو تفرض عقوبات، فرغم أن الولايات المتحدة وقعت اتفاق سلام مع طالبان، لا تزال تعتبرها منظمة إرهابية.
تمثل سياسة الضغوطات الاقتصادية الأمريكية التي تمارسها على الدول والكيانات والأشخاص أحد أوجه وخصائص الإمبريالية الأمريكية، لضمان الهيمنة العالمية، فهي تكيّف النظام المالي العالمي وفقا لقوانينها المحلية

فحسب مسؤول بوزارة الخزانة الأمريكية، فإن "الولايات المتحدة لم تخفف ضغوط العقوبات على قادة طالبان أو القيود الكبيرة على وصولهم إلى النظام المالي"، نظرا لتصنيفها كحركة إرهابية من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى. ولكن وزارة الخزانة قالت إنها ستتخذ خطوات للسماح للمنظمات الإنسانية بمواصلة أعمال الإغاثة التي تفيد الشعب الأفغاني، ولا يزال الجدل قائماً حول آلية وصول المساعدات بعيداً عن حركة طالبان.

يشير اتفاق الدوحة بين أمريكا وطالبان بطرق عدة إلى عدم رغبة الولايات المتحدة تحقيق الاستقرار في أفغانستان، بل إلى السعي لاستغلال الفوضى الناجمة عن الانسحاب ضد خصومها في آسيا. فقد نص الاتفاق على أن تلتزم طالبان بعدم استخدام الأراضي الأفغانية لشنّ هجمات إرهابية على الولايات المتّحدة و"حلفائها"، وهي إشارة واضحة إلى عدم ممانعتها شن هجمات ضد خصومها، بل إن الاتفاقية تتغاضى عن شن هجمات ضد بعض حلفاء أمريكا كالهند مثلاً، فلم يتضمن الاتفاق مثلاً ذكر شبكة لشكر طيبة المصنفة منظمة إرهابية والتي تتعاون مع طالبان وتستهدف الهند.

يشكل التعامل الأمريكي مع حركة تركستان الشرقية الإسلامية (الحزب الإسلامي التركستاني) نموذجاً إرشادياً واضحاً على المعايير الأمريكية المزدوجة، وذاتية مصطلح الإرهاب وتبعيته لما تحدده المصالح الأمريكية. أُدرجت الحركة على قائمة العقوبات بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1267، وهو القرار الذي شاركت الولايات المتحدة في تأييده، ومع ذلك، قامت الولايات المتحدة من جانب واحد برفع الحركة من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية في أواخر عام 2020، مدعية أنه لأكثر من عقد، لم يكن هناك دليل موثوق على استمرار وجود الحركة.
يشير اتفاق الدوحة بين أمريكا وطالبان بطرق عدة إلى عدم رغبة الولايات المتحدة تحقيق الاستقرار في أفغانستان، بل إلى السعي لاستغلال الفوضى الناجمة عن الانسحاب ضد خصومها في آسيا. فقد نص الاتفاق على أن تلتزم طالبان بعدم استخدام الأراضي الأفغانية لشنّ هجمات إرهابية على الولايات المتّحدة و"حلفائها"، وهي إشارة واضحة إلى عدم ممانعتها شن هجمات ضد خصومها

وتكشف الخطوة بوضوح رغبة الولايات المتحدة خلق مشكلة للصين، فالحركة التي تنتمي إلى قومية الإيغور في الصين حليفة لطالبان، وتسعى للانفصال عن الصين وإعادة تركستان التاريخية. وتشترك الصين في حدود طولها 80 كيلومتراً تقريباً مع أفغانستان من الجهة الشمالية الشرقية، وهي حدود مع منطقة شينغيانغ ذات الأغلبية الإيغورية ذاتية الحكم، والتي تشهد توترات جراء الاضطهاد الصيني لسكانها من المسلمين الإيغور.

لا تزال الولايات المتحدة تتبع سياسات الحرب الباردة لضمان هيمنتها، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية استثمرت أمريكا تفوقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي لفرض مشروعها الإمبريالي بالقوة، وعبّرت عن تجليات القوة من خلال صياغات عديدة، كسياسة الاحتواء وفق مبدأ ترومان، إلى استراتيجية باراك أوباما المعروفة باسم "القوة الذكية"، ثم سياسة "أمريكا أولا" التي أعلنها دونالد ترامب، وأخيراً خطة "إعادة البناء بشكل أفضل" التي وضعها جو بايدن، وتعبر هذه السياسات المستندة إلى القوة عن الهدف الأمريكي بديمومة الهيمنة الأمريكية.

رغم السمعة السيئة لمصطلح الإمبريالية، يصر طيف أمريكي واسع من المنظرين والسياسيين على أن الإمبريالية الأمريكية ضرورية لحفظ الأمن العالمي وأنها قدر أمريكا الذي لا مفر منه. فقد حاجج روبرت كابلان في كتابه "جنود الإمبريالية" بأن الولايات المتحدة وحدها تمتلك هذه القدرة، وأن على أمريكا أن تقبل بأن التاريخ قد منحها دورها الإمبريالي. ولا ينفرد كابلان وحده بالحِجاج أن على أمريكا أن تتبنى مصيرها الإمبريالي، إذ يشاطره الرأي العديد من المحافظين الجدد وبعض الليبراليين الذين قدموا رؤية مماثلة للولايات المتحدة كضامن أخير للأمن العالمي.

بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، أصبحت عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية أداة رئيسية للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة، من خلال منظورات "الأمن الوطني" و"الدفاع عن الحرية". وقد شنت أمريكا حرباً مفتوحة في الزمان والمكان على أعدائها، وأسقطت حكومات تحت ذريعة حرب الإرهاب. وبعد الانسحاب من أفغانستان طوت أمريكا صفحة حربها الأبدية ضد الإرهاب، وتخلت عن كون الجهاد العالمي العدو الأوحد لأمريكا، بل يمكن أن يعود شريكاً أمريكيا كما كان إبان الحرب الباردة، وهي حرب عادت في صورة المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى بين واشنطن وبكين.

تدرك الصين أن أحد أهم أهداف الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، هي خلق حالة من عدم الاستقرار وإشاعة الفوضى في المنطقة، وتعتبرها أحد فصول مواجهة الصين ومحاصرتها وكبح جماحها. ورغم أن الصين حذرة من أي خطط تفضي إلى تدخلها في أفغانستان عسكرياً، فقد تعلمت من الإمبراطوريات السابقة صعوبة المهمة، وهي تحاول إقامة علاقات مع طالبان للحفاظ على الاستقرار وتجنب الفوضى. وإن كانت خطواتها بطيئة وتفتقر إلى الوضوح، لكن المؤكد أن بكين باتت على قناعة راسخة بأن الولايات المتحدة تشكل التحدي الخارجي الأكبر للأمن القومي والسيادة والاستقرار الداخلي في الصين. إذ يتنامى الاعتقاد لدى الصينيين أن الخوف والحسد يدفعان أمريكا إلى احتواء الصين بكل الطرق والوسائل، وهو ما يظهر في مجمل التوترات بين واشنطن وبكين بكافة القضايا الجيوسياسية، ومنها النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي.
رغم أن الصين حذرة من أي خطط تفضي إلى تدخلها في أفغانستان عسكرياً، فقد تعلمت من الإمبراطوريات السابقة صعوبة المهمة، وهي تحاول إقامة علاقات مع طالبان للحفاظ على الاستقرار وتجنب الفوضى

دخلت الولايات المتحدة والصين في منافسة قد يتبين مع الوقت أنها أطول وأشمل وأشد من أي سباق دولي آخر في التاريخ الحديث، بما في ذلك الحرب الباردة، حسب وانغ جيسي وهو رئيس "معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية" في جامعة بكين. وقد تزايدت المخاوف في البلدين من احتمال تصعيد المنافسة فتتحول إلى صراع مفتوح.

فخلال العقد الأخير، انتقل التوافق العام في واشنطن بشكل حاسم لمصلحة المواجهة مع بكين. وقد شكل ذلك مساراً بلغ ذروته في ظل إدارة ترمب التي عبرت صراحة عن عدائها للصين وذمت "الحزب الشيوعي الصيني". وتبدلت النبرة مع التغيير الجديد في الإدارة الأمريكية، بيد أن التغيير لم ينعكس بشكل كبير على جوهر المسألة. إذ يؤكد "الدليل الإرشادي الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي" الذي أطلقته إدارة بايدن في آذار/ مارس 2021 أن الصين تشكل "المنافس الوحيد القادر على دمج قدراته العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والتقنية، بغية تشكيل خطر مستمر على وجود نظام عالمي مستقر ومفتوح".

خلاصة القول أن الولايات المتحدة لا ترغب بتحقيق الاستقرار في أفغانستان، وذلك من خلال تقويض اندماجها في المجتمع الدولي سياسياً ومالياً، وهي تستخدم نفوذها وهيمنتها لمنع الاعتراف بحكومة طالبان، والإصرار على تصنيفها منظمة إرهابية، وتشجع عبر ضغوطاتها الاقتصادية والسياسية على خلق حالة من الفوضى لجيرانها في آسيا.

ورغم أن مجموعة الدول المستهدفة بخلق الفوضى، وهي إيران وباكستان وروسيا والصين، تدرك الأهداف الأمريكية جيداً ولديها جميعاً مصالح كبيرة بتحقيق الاستقرار في أفغانستان، لكن تحركاتها لمساعدة حكومة طالبان لا تنطوي على خطة واضحة ورؤية شاملة، وتبدو خطواتها متثاقلة وبطيئة، ولا يمكن للبلد الأفقر في العالم أن يصمد طويلاً، فسرعان ما سينهار الوضع، إذ لا تكفي معرفة أهداف خلق الفوضى الأمريكية في أفغانستان، بل لا بد من مواجهتها واحتوائها.

twitter.com/hasanabuhanya
التعليقات (1)
تجارة الإرهاب
الأحد، 31-10-2021 09:29 م
تحريك السي أي إيه لداعش و إشعال الفتنة في أفغانستان دليل على ما جاء في مقالكم. لا أمريكا و لا الصين و لا روسيا يريدون إستقرار أفغانستان بل يريدون مصالحهم و حرق البلاد.