قضايا وآراء

بعد السودان.. الثورات المضادة إلى أين؟

غازي دحمان
1300x600
1300x600
ثورة السودان، ضحية جديدة من ضحايا الثورات المضادة، التي يبدو أنها تعيش ربيعها الآن على جثة أحلام الشعوب العربية في البحث عن الحرية والعدالة والكرامة، وكأن هذه الثورة المضادة أقسمت أنها ستلاحق الشعوب العربية، شبرا شبرا، بيتا بيتا، دارا دارا، زنقة زنقة، كما هدّد الزعيم الليبي معمر القذافي قبل أن تطيح به الثورة الليبية.

قبل ذلك أطاحت الثورة المضادة بأحلام التوانسة بعد أن اغتالت أشواق السوريين للحرية وتوقهم لحياة كريمة، وطموحات المصريين في رؤية بلدهم يسير على سكة الحداثة السياسية ودولة المواطنة بعيداً عن قهر البوليس وتسلط العسكر، وحدث نفس الشيء في ليبيا، حيث فرضت الأطراف الخارجية الوصاية على الشعب الليبي عنوة.

في جميع الحالات المشار لها، كان العسكر والأجهزة الأمنية هم أداة الثورات المضادة، حيث تم تجنيدهم إما لصالح مشاريع جيوسياسية عابرة للإقليم، وتحولوا إلى مجرد موظفين في هذه المشاريع يتقاضون رواتب شهرية مقابل أن يتحولوا إلى واجهات للمستعمر الجديد الذي يقوم، وفي وضح النهار، بالسيطرة على ثروات البلاد وإعادة هندسة الأوضاع الاجتماعية والديمغرافية في البلاد، وتحويل البلد في النهاية إلى مجرد ورقة للتفاوض على طاولات اللاعبين الإقليميين والدوليين، أو تحولوا إلى أدوات للتنكيل بالشعوب الثائرة، وردع كل من قد يرى في الثورة حلاً لأزمات بلاده، ومن يرغب في انتقال بلاده إلى عوالم الديمقراطية والحرية، حيث تكفلت الثورات المضادة، عبر شبكة تحالفاتها الداخلية والإقليمية والدولية بإيصال الرسالة الأثيرة، التي صاغها بشفافية وزير الخارجية الليبي في فترة حكم القذافي، عبد الرحمن شلقم: "إما نحكمكم أو نقتلكم"، ولا خيارات أخرى لديكم.
استفادت الثورات المضادة، مؤخراً، من تذبذب الموقف الدولي، وخاصة الأمريكي، والصوت الغربي الضعيف في مواجهة العبث الحاصل في منطقتنا بمصائر الدول والشعوب، وانكفاء مواقف تلك الأطراف إلى مجرد الدعوة لبناء أسوار تعزلها عن شعوب الجنوب وتمنع الناجين من الموت في تلك الدول من الوصول إليها

استفادت الثورات المضادة، مؤخراً، من تذبذب الموقف الدولي، وخاصة الأمريكي، والصوت الغربي الضعيف في مواجهة العبث الحاصل في منطقتنا بمصائر الدول والشعوب، وانكفاء مواقف تلك الأطراف إلى مجرد الدعوة لبناء أسوار تعزلها عن شعوب الجنوب وتمنع الناجين من الموت في تلك الدول من الوصول إليها، ومن يحاول سيصار إلى تركه يتجمّد برداً في غابات بولندا أو يضيع عمره في جزر اليونان النائية.

لن تتوقف ماكينة الثورات المضادة عند حد وأد الثورات، يعتقد القائمون عليها وداعموهم من الخارج أن لديهم فائض قوّة يتيح لهم إبعاد مخاطر الثورات لعقود قادمة، وهم أمام فرصة تاريخية، وكل الظروف مناسبة لتحقيق طموحهم هذا. فالشعوب باتت منكوبة لدرجة أنها لم تعد قادرة حتى على إبداء الانزعاج من الفساد الفاقع والجوع المستفحل والفقر المستدام، وهي لا تريد سوى الغنيمة بالسلامة. لكن ذلك لا يكفي، إذ ليس المقصود أولئك الذين ثاروا وهتفوا "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهؤلاء جرى استنزافهم وإفراغ كل طاقات الاعتراض وحماس الثورات منهم.. المقصود هي الأجيال الصاعدة التي سمعت ورأت، إذ ما الضامن أنها لن تكرّر التجربة بعد سنوات معدودة؟

اللافت في الثورات المضادة هو حجم الانحطاط السياسي والخطابي والثقافي والفني الذي انطوت عليه هذه الظاهرة، وكأن ذلك مقصود ومبرمج لقتل الروح المفعمة بالأحلام الكبيرة في التغيير والتطوّر. فما معنى أن يركّز خطاب لأحد زعماء هذه الثورات على اعتراضه على رمي الناس القمامة، في مقطع من أحد الشوارع، مع أنه موضوع قد يأنف موظف صغير في بلدية من تناوله؟ وما معنى أن لا يرى زعيم آخر لهذه الثورات في بلده التي نكبها بالدمار والاحتلال؛ ما يستحق التوقف عنده ويركّز كل طاقته لشتم وتخوين أولئك الذين نجوا من سجونه وآلته الحربية؟!
بانقلاب السودان، تقفل الثورات المضادة دائرة إسقاط ثورات الربيع العربي، عبر إعادة الزمن إلى مرحلة ما قبل 2011، وتمت إعادة النخب الساقطة إلى مكانها، لكنها بذلك ضمنت بقاء البلاد العربية، التي ثارت أو لم تثر، على خط عدم الاستقرار، وأبقت أسباب الثورة قائمة

إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن ثورات الربيع العربي كشفت كل هذا العفن الذي طالما ظلّ مخبأً في القصور والمكاتب، وسلطت الضوء على تفاهة وضحالة من كان يسميهم الناس، زوراً، بالنخب، وتبين أنهم لا يختلفون كثيراً عن زعران الحارات وقاطعي الطرق، وربما الفرق الوحيد بين هؤلاء وأولئك يكمن بحجم ونوع السلاح الذي يملكه من يُسمون حكاماً وزعماء.

بانقلاب السودان، تقفل الثورات المضادة دائرة إسقاط ثورات الربيع العربي، عبر إعادة الزمن إلى مرحلة ما قبل 2011، وتمت إعادة النخب الساقطة إلى مكانها، لكنها بذلك ضمنت بقاء البلاد العربية، التي ثارت أو لم تثر، على خط عدم الاستقرار، وأبقت أسباب الثورة قائمة. أما الرهان على إرهاب الأجيال الصاعدة لمنعها من الثورة فهو رهان خاسر واستثمار فاشل.. تاريخ الثورات في كل الدنيا يثبت ذلك، والعرب لن يكونوا استثناء من هذه المعادلة.

twitter.com/ghazidahman1
التعليقات (0)

خبر عاجل