قضايا وآراء

المغرب.. إذ تنضج التجربة وتزداد

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
".. العمل السياسي الإسلامي سيتراجع حتما، ليس لمشكلة فيه، وإنما لأنها سنة التغيير ومنطق الديمقراطية. فأرقى الديمقراطيات لا يمكن أن يستمر البرنامج السياسي فيها أكثر من دورة أو دورتين، ثم يتراجع ويحل بديلا عنه برنامج سياسي آخر..".. هكذا تحدث الرجل الطيب اللبيب المهندس محمد الحمداوي رئيس "حركة التوحيد والإصلاح" السابق. وكان هذا الحديث مبكرا جدا، إذ كان بعد انتخابه رئيسا للحركة عام 2010م. لم يكن حديثا كأحاديث زرقاء اليمامة التي ترى ما لا يراه الآخرون بلا سبب، ولكنه كان حديث السنن والنواميس المزدانة بالوعي والمعرفة والتي قبلا وبعدا مهداة بنور الله.

إذا لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المغرب مفاجأة، هكذا نفهم من حديث المهندس الحمداوي، فما حدث طبيعي أن يحدث وقد حدث. وكما قال الرجل إنها "سنة التغيير ومنطق الديمقراطية". وهو فهم صحيح وجميل، ليس فقط لأنه قيل قبل حدوثه بسنوات، ولكن أيضا وهو الأهم يضمن دوام السير في الطريق الصحيح. فما حدث ليس نهاية لأي فكرة أو مشروع كما يقول البعض، وليس لأخطاء سياسية بعينها وقع فيها حزب العدالة والتنمية وقادته، وليس لأنهم قبلوا الدخول في "حيلة سياسية" لامتصاص ثورات المشرق، وليس لفشل الحزب في الوفاء بوعوده الانتخابية أمام المواطن المغربي البسيط الذي ينشد حياة كريمة، ليس شيء من هذا كله، وأن كان بطبيعة الأشياء يلامس بعضا منها.
لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المغرب مفاجأة، هكذا نفهم من حديث المهندس الحمداوي، فما حدث طبيعي أن يحدث وقد حدث

* * *

تهافت شديد وضعف واضح في القراءة التاريخية لحضارة هذه الأمة أن يتهم الإسلام نفسه في شخص الحركات الإصلاحية الإسلامية، فلا هم قالوا إنهم الدين والدين هم، ولا المجتمعات الإسلامية رأت ذلك، حتى في عز قوة هذه الحركات، ودائما وأبدا كان تيار التدين في المجتمع يسير ويتقدم في مجراه الاجتماعي الخاص ليس بعيدا وليس قريبا من هذه الحركات التي هي جزء أصيل من مجتمعاتها، هذا أولا..

ما يتصل بذلك هو أن الواقع العربي والإسلامي فكريا وسياسيا واجتماعيا يفور ويتشكل ويتغير ويتطور من بعد انتهاء الفترة العثمانية وحتى يومنا هذا بشكل دائم ومستمر، ويراكم ويختزن في حدود موضعه التاريخي على إثر حربين عالميتين واحتلال وتقسيم، وزرع كيان شرس ومعاد، وتدخل عميق في اختراق واختيار الأنظمة وتبديلها وتغييرها، وفي كل هذه الأوقات كانت الحركات الإصلاحية الإسلامية جزءا من كل ما يحدث ويجرى، تصيب وتخطئ، تؤثر وتتأثر، تُغيِر وتتغير.. في مشهد تاريخي عريض لم يخل أبدا في يوم من الأيام من انتماء عميق للأمة وخير ما أنتجته هذه الأمة من تراث وأفكار.. ولا زالت السردية بها الكثير من النصوص التي لم تكتب بعد، والأفكار التي لم تنضج بعد والتجارب التي لم تكتمل بعد.. باختصار ما زالت الأيام الجميلة لم تأت بعد.

* * *

تشكل الحالة المغربية ضمن كل الحركات الإصلاحية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي استثناء فريدا.. فعلى الرغم من الهدوء الذي يساور الإسلاميين في المغرب وتطورهم، إلا أنهم في حقيقة الأمر أحدثوا نقلة نوعية هائلة في صميم التجربة الإصلاحية فكريا واجتماعيا وسياسيا، فكانوا من أوائل من اتخذ موقفا واضحا من استخدام العنف في إحداث التغيير، فلم يقبلوه ولم يبرروه، وسنأتي إلى ذلك، ومن أوائل من أحدث تمييزا واضحا بين الدعوة الاجتماعية (إصلاحا وتربية) وبين الممارسة السياسية (أحزابا وانتخابات)، ومن أوائل من قدم صيغة المشاركة مع الآخرين في السلطة والحكم.
تشكل الحالة المغربية ضمن كل الحركات الإصلاحية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي استثناء فريدا.. فعلى الرغم من الهدوء الذي يساور الإسلاميين في المغرب وتطورهم، إلا أنهم في حقيقة الأمر أحدثوا نقلة نوعية هائلة في صميم التجربة الإصلاحية فكريا واجتماعيا وسياسيا

تقول الحكاية إن العمل الدعوي - وكما يحدث دائما - كان أول النشاطات التي بدأتها الحركة التي سيتكون بعدها تيارها الرئيس والأساسي. سيلتحق د. سعد الدين العثماني بجمعية الشبيبة الإسلامية سنة 1978م قبل أن يسهم سنة 1981 م مع صديق عمره عبد الإله بنكيران وآخرين في تأسيس "الجماعة الإسلامية" التي سيتغير اسمها إلى "الإصلاح والتجديد"، ثم تتوحد سنة 1996 مع "رابطة المستقبل الإسلام") التي كان يرأسها د. أحمد الريسوني، تحت اسم جديد ما زال إلى الآن (حركة التوحيد والإصلاح).. ستتطور النقاشات الداخلية في الحركة إلى أهمية المشاركة السياسية، وسيلتحق عدد كبير من أبناء الحركة بحزب "الحركة الشعبية الدستورية" الذي سيتغير اسمه إلى "العدالة والتنمية" عام 1999م، وهو الحزب الذي كان يتزعمه د. عبد الكريم الخطيب رحمه الله (1921م -2008م).

الحزب أصلا كان مرخصا له من العام 1976م، ولكن حدث قدر من التوتر بين الملك الحسن الثاني (1929- 1999م) ود. عبد الكريم الخطيب الذي رأى أن الجو أصبح معتكر الجوانب، فانسحب بهدوء من الحياة السياسية، حتى كان العام 1992م فاتصلت الحركة بالدكتور الخطيب وعرضت عليه إعادة إحياء الحزب، فوافق على شرط الاعتراف بالملكية الدستورية ونبذ العنف، وكانوا هم أصلا كذلك.

* * *

استقر الأمر على أن يقود العمل الدعوي والتربوي (حركة التوحيد والإصلاح). وكان د. أحمد الريسوني، العالم والفقيه المقاصدي، قد أسس لها تأسيسا عميقا واعتمدت الحركة منهجا رِسالياَ مفتوحا على المجتمع. وللمهندس محمد الحمداوي كتابا مهما للغاية في هذا المعنى "الرسالية في العمل الإسلامي: استيعاب ومدافعة".. وأن يقود العمل الحزبي والسياسي "حزب العدالة والتنمية"، فالفصل الإداري التام بين الكيانين كان واضحا وحقيقيا.

وفي عام 1997م سيدخل الحزب البرلمان للمرة الأولى بنسبة 4 في المئة من الأصوات (تسعة مقاعد) ويستمر في المعارضة حتى عام 2011م، ليفوز بالأغلبية بنسبة 28 في المئة من الأصوات ويشكل حكومة ائتلافية، ثم في انتخابات 2016م يفوز بنسبة 31 في المئة، وللمرة الثانية يشكل حكومة ائتلافية. وفي انتخابات 2021م كانت النتيجة تقترب من نتيجة انتخابات المرة الأولى (12 مقعدا)، لكن ليس هذا كل شيء.
أتصور أن تجربة الإصلاح في المغرب - بمنظورها الأوسع - نضجت وازدادت ولم تنقص شيئا، رغم نقص عدد نوابها في البرلمان. وفي مسار التأريخ لحركات الإصلاح سيكون ما قدمته هذه التجربة إضافة نوعية كبيرة لزاد الوعي والإدراك ورصيد الثقة والخبرات، فالقصة أكبر كثيرا من مشهد يوم الانتخاب

* * *

أتصور أن تجربة الإصلاح في المغرب - بمنظورها الأوسع - نضجت وازدادت ولم تنقص شيئا، رغم نقص عدد نوابها في البرلمان. وفي مسار التأريخ لحركات الإصلاح سيكون ما قدمته هذه التجربة إضافة نوعية كبيرة لزاد الوعي والإدراك ورصيد الثقة والخبرات، فالقصة أكبر كثيرا من مشهد يوم الانتخاب في 8 أيلول/ سبتمبر 2021م.

* * *

لكن علينا أن نرى ونتأمل ونتفكر ونتدبر، فكل يوم يتأكد لنا أن المسار السياسي (وحتى إشعار آخر) هو أضيق مسارات الحركة الإصلاحية الإسلامية في شمولية وجودها داخل المجتمع العربي كله، وأكثرها ضيقا لشعوب هذه المجتمعات قبل حكوماتها وحكامها! نعم.. ليس في هذا مفاجأة، ولا يعود هذا أبدا إلى كراهية الشعوب لهم، لكن الشعوب كانت ولا زالت تراهم في مرتبة أعلى من هذا الصخب الأجوف، والأمر كذلك بالفعل طالما أرقام "المعادلة الدولية" لم تشهد أي تغيير نوعي في توازناتها القائمة، هم بالكاد يرحبون بهم في "المعارضة" التي تمثل صوت الحق بطهره واستقامته.

ولنا أن نعلم أن ساعة "الفراق الأليم" بين موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) والشيخ الإمام محمد عبده (1849-1905م) كانت على "ميقات" هذه الفكرة، فالأول كان مفكرا ثائرا يرى السياسة وحكام السياسة ميدان الكفاح والإصلاح، فخاضها حتى أعلى رأسه وقضى وهو في غمارها، والثاني كان مفكرا إصلاحيا سار أولا مع صاحبه ثم وقف في منتصف الطريق، وتلفتت عينه وهو يمر على الديار وأطلالها بيد البلى نهب - كما يقول الشاعر - فقال: وجدتها، إنه التعليم والتربية والدعوة للمجتمعات، وقضى هو أيضا في غمارها. ولا زالت الحركة الإصلاحية - تاريخيا - تراوح مسعاها بين أفكار الرجلين على نحو لم يحسم بعد، وإن كان قد اقترب.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)