آراء ثقافية

في مديح الشيخوخة

مسن شيخوخة عجوز (بدون حقوق او نسبة أرشيفية)
مسن شيخوخة عجوز (بدون حقوق او نسبة أرشيفية)

العنوان هو عنوان كتاب السياسي والمفكر والخطيب الروماني الأشهر ماركوس توليوس شيشرون، وضعه عام 44 قبل الميلاد، وقد قرأته، قبل عامين، في ترجمته العربية، التي أنجزها فتحي أبو رفيعة، عن ترجمة إنجليزية صادرة في الولايات المتحدة، وعدت أقرأه قبل يومين، باحثا عن جملة أو اثنتين، فوقعت على ما جعلني أدقق أكثر في أثره العالق بذهني، فشيشرون يهدي الكتاب إلى صديقه "أتيكوس"، وفي الهامش يكتب المترجم "كان أتيكوس في الخامسة والستين، وكان شيشرون في الثانية والستين"، في ذلك الوقت كان هذا العمر يعد شيخوخة، هكذا قلت لنفسي، متعللا بأني وإن كنت في نفس عمر شيشرون، الآن، إلا أنه في زماننا هذا ما زال بيني وبين الشيخوخة حلقة أو حلقتين على الأقل، ونحيت جانبا معلومة أن شيشرون جرى اغتياله بعد عام فقط من تأليفه المديح اللطيف.

في المرتين لم يفارق خيالي شخصان، أحدثكم عنهما في النهاية، وسأعرض بعض ما لفتني في الكتاب، أولا.

في تقديم فيليب فريمان للترجمة الإنجليزية، عن اللاتينية، نعرف أن العام السابق على كتابة "في مديح الشيخوخة" لم يكن عاما سعيدا بالنسبة لشيشرون، فقد كان "الخطيب الأشهر ورجل الدولة المرموق في روما في أوائل العقد السابع من عمره، وكان وحيدا بعد أن انفصل منذ بضعة أعوام عن زوجته ذات الثلاثين ربيعا، وتزوج زوجة أصغر سنا، ما لبث أن طلقها على الفور. وفي مطلع هذا العام، توفيت ابنته المحبوبة تولليا؛ ما دفعه إلى حالة من اليأس والقنوط. وكان قد فقد مكانته في طليعة رجال السياسة الرومان قبل ذلك بأربع سنوات حينما عبر يوليوس قيصر نهر روبيكون وأرغم الجمهورية الرومانية على الدخول في حرب أهلية. ولم يكن بوسع شيشرون أن يؤيد قيصر، وبالتالي، فبعد أن وقف في البداية في مواجهة الدكتاتور الجديد وحصل في نهاية المطاف على عفو عام أشعره بالمهانة؛ انسحب إلى ضيعته الريفية، وظل هناك بعيدا عن روما كرجل وحيد يعيش حياته وأفكاره دونما أي نفع يقدمه للعالم".

هذه هي الأجواء التي شرع فيها شيشرون في الكتابة: "أكتب حول موضوع التقدم في العمر" ويشعر أن الشيخوخة تتقدم منه سريعا وعلى نحو لا مناص، وأن عليه أن يواجها بهدوء وحكمة.

يقيم شيشرون كتابه في إطار "المحاورة" ويسند طرفيها إلى شخصيات معروفة في التاريخ الروماني، فاختار شيشرون للتحدث بالنيابة عنه في حواره الخيالي "كاتو الصغير"، وهو قائد روماني راحل، يجعله يحاور اثنين من أصدقائه الأصغر سنا.

هكذا نفهم أن كلمات "كاتو" (مات عن 84 عاما) هي كلمات شيشرون، فكاتو يقول: أستبعد كل الأفكار المتعلقة بمساوئ التقدُّم في العمر، وحولتها بدلًا عن ذلك إلى احتمالات سارة ومبهجة".

ينطلق شيشرون من أن معظم كبار السن يزعمون أن الشيخوخة تشكل بالنسبة إليهم عبئا أشد وطأة من الجبل، لكنه يؤكد أن "هؤلاء الذين يفتقدون داخل أنفسهم الموارد التي تمكنهم من العيش حياة هانئة وسعيدة سيشعرون بالألم في أي مرحلة من مراحل عمرهم. (ف) كل إنسان يأمل في الوصول إلى سن الشيخوخة، لكنها حينما تحل، يشرع معظمنا في الشكوى منها، فهكذا الناس على هذا القدر من الغباء وعدم الثبات".

الشكوى الرئيسية يصوغها هكذا: "النحيب لأن الشيخوخة سلبت ملذات الحياة الحسية، وهي الملذات التي بدونها لا تستحق الحياة أن تعاش. أنهم (المتقدمون في السن) لم يعودوا يلقون العناية من الأشخاص الذين كانوا يهتمون بهم من قبل".

ويرد عليها: "إن إلقاء اللوم فيما يتعلق بكل أنواع الشكاوى هو مسألة تتعلق بشخصية الشاكي، وليس بعمره، والأشخاص المسنون المتعقلون، وذوو السجايا الطيبة والسمحون سوف يتحملون الشيخوخة جيدا، أما ضعاف الروح وذوو الطباع الحادة فلن يكون من نصيبهم سوى التعاسة في كل مراحل حياتهم".

الادعاء الأول يرتكز على أن "الثروة والممتلكات والوضع الاجتماعي، وهي مزايا لا يحصل عليها في حياتهم إلا القليلون- هي التي تجعل الشيخوخة ممتعة إلى هذا الحد".

والرد هو: "الشيخوخة لا تشكل عبئًا هينًا على الحكيم حتى وإن كان فقيرا. أما بالنسبة إلى الشخص الأحمق فإن أموال العالم لن تسهل عليه آلام الشيخوخة".

هذه مقدمات تفضي إلى صياغة القضية بشكل إجمالي: "حينما أفكر في الشيخوخة، يمكنني أن أجد أن هناك أربعة أسباب تجعلها بالغة التعاسة: الأول: أنها تبعدنا عن ممارسة النشاط، والثاني: أنها تضعف أجسامنا، والثالث: أنها تحرمنا تقريبا من جميع ملذاتنا الحسية، والرابع: أنها ليست بعيدة عن الموت".

سأعرض معالجة شيشرون للسبب الأول فقط، وهو: الحياة النشيطة.

يسأل شيشرون: عن أي نوع من الأنشطة نتحدث؟ ألا نعني بذلك الأنشطة التي نشارك فيها ونحن شباب أقوياء؟

ويكون الجواب: ولكن من المؤكد أن هناك أنشطة تناسب عقول الأشخاص الأكبر سنا حتى وإن أصاب الوهن الجسد. إن الذين يقولون إنه ليست هناك أنشطة مفيدة تتعلق بالشيخوخة يجهلون ما يتحدثون عنه. إنهم كهؤلاء الذين يقولون أن القبطان لا يفعل شيئا مفيدا لكي تبحر السفينة لأن هناك آخرين... بينما هو يجلس مستريحا في قمرة السفينة ممسكا بدفتها. فهو وإن كان لا يقوم بما يقوم به البحارة الأصغر سنا؛ إلا أن ما يقوم به هو أهم وأقيم. فالأفعال العظيمة لا يقيَّم أداؤها بما استخدم فيها من قوة وسرعة ورشاقة بدنية لكنه يقيَّم بالحكمة وقوة الشخصية والحكم المتّزن. وتتوفر هذه الصفات للأشخاص في شيخوختهم؛ بل إنها تنمو وتزداد ثراء مع الوقت.

ويقدم شيشرون مثلين من التاريخ ومن المسرح، فمن التاريخ يذكر "إذا قرأتم أو سمعتم عن تاريخ الأراضي الأجنبية، فسوف تعلمون أن الشباب هم وراء الانقلابات في أعظم الدول، وأن الشيوخ وراء استعادتها".

ومن المسرح يستعيد هذا الحوار:
قل لي، كيف خسرت وطنك بهذه السرعة
وكان الرد ذا المغزى الأعمق لهذه الشخصية ما يلي:
لأن متكلمين جُدُدًا حلُّوا، حمقى وصغار السن".

في الرد على الادعاء بأن الذاكرة تخبو على مر السنين، يورد شيشرون حكاية عن الكاتب المسرحي الإغريقي الأشهر: ألف سوفوكليس تراجيدياته وهو في شيخوخته. وحينما بدا أنه يهمل الإنفاق على أسرته بسبب شغفه بالكتابة، جرَّه أبناؤه إلى المحاكم لتجريده من أهليته بحجة عدم السلامة العقلية (فقد كان لديهم مثلنا قوانين تتيح فرض هذه العقوبات على أرباب الأسر الذين يسيئون إدارة شؤون أعمالهم). ويقولون أن سوفوكليس قرأ على هيئة المحكمة مسرحيته "أوديب في كولونا" التي كان قد انتهى لتوه من كتابتها، ولم يكن حتى قد راجعها، وسأل الحضور بعد أن انتهى من قراءتها إن كان ما سمعوه يشي بأنه عمل رجل مخبول. وعلى الفور أفرجت عنه المحكمة إثر الانتهاء من قراءته".

ويردف، شيشرون، بحكاية سوفوكليس أسماء مفكرين وفلاسفة "عاشوا حياة نشطة حافلة بالعمل طيلة حياتهم"، ثم يلتفت إلى زوايا أخرى من الحياة: "إذا وضعنا جانبا هؤلاء الرجال الاستثنائيين وأعمالهم؛ يمكنني أن أذكر لكم أسماء مزارعين رومانيين مسنين.. لم يكونوا بالكاد يخرجون من حقولهم أثناء عمليات الزراعة الرئيسية.. هؤلاء الرجال كانوا يدركون أنهم يقومون بمهام لن يعيشوا لإنجازها، مثلما يقول الشاعر: إنه يغرس الأشجار لمنفعة جيل آخر.

من القراءة الأولى كان النابغة الذبياني حاضرا في ذهني وأنا أقرأ مديح شيشرون للشيخوخة، فمنذ طالعت ما كتب عن أسباب تسمية الشاعر زياد بن معاوية بـ"النابغة" ملت إلى مسألة ورود الشعر عليه في شيخوخته، فكتب النقد والبلاغة القديمة تذكر أن "النابغة لقب بهذا اللقب لأنه نبغ في الشعر، أي أبدع في الشعر دفعة واحدة، واختلف النقاد في تعليله وتفسيره. ابن قتيبة يذكر أنه لقب بالنّابغة لقوله: وحلّت في بني القين بن جسر- فقد نبغت لهم منا شؤون، وردّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: "ونبغ- بالشعر- قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر"، واحتنك أي فقد كل أسنانه. وفي رأي البغدادي، أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربّما كان اللقب مجازاً، على حدّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل: نبغ الشاعر، والشاعر نابغة، إذا غزرت مادة شعره وكثرت.

رجحت منذ مراهقتى أن الذبياني (نسبة لقبيلة ذبيان) لُقب بالنابغة لأنه لم ينشد الشعر إلا في مقتبل شيخوخته.
لذلك كنت أنشد (في مراهقتي) أبياته هذه:


مَن يَطلِبِ الدَهرُ تُدرِكهُ مَخالِبُهُ
وَالدَهرُ بِالوِترِ ناجٍ غَيرُ مَطلوبِ


ما مِن أُناسٍ ذَوي مَجدٍ وَمَكرُمةٍ
إِلّا يَشُدُّ عَلَيهِم شِدَّةَ الذيبِ


حَتّى يُبيدَ عَلى عَمدٍ سَراتَهُمُ
بِالنافِذاتِ مِنَ النَبلِ المَصايِيبِ


إِنّي وَجَدتُ سِهامَ المَوتِ مُعرِضَةً
بِكُلِّ حَتفٍ مِنَ الآجالِ مَكتوبِ

الشخص الثاني الذي شغل مخيلتي وأنا أقرأ "في مديح الشيخوخة" شخصية سينمائية، فرغم أن صانعي فيلم "أميستاد"، وهو فيلم أمريكي من إخراج ستيفن سبيلبرغ، أنتج في العام 1997، يثبتون في مقدمته أن أحداثه مأخوذة "عن قصة واقعية لإحدى أهم قضايا تجارة العبيد في أفريقيا"، إلا أن شخصية جون كوينزي آدامز، الرئيس الأمريكي السادس، التي قام بأدائها الممثل أنتوني هوبكينز، تظل شخصية سينمائية، وفيلم "أميستاد"، كما يعرف الكثير من القراء، يتناول سفينة إسبانية، تحمل الاسم نفسه، كانت تستخدم لنقل مواطنين أفريقيين أحرار مختطفون من افريقيا إلى هافانا في كوبا، ثم إلى أمريكا، لبيعهم هناك على أنهم عبيد، وفي العام 1839 تمكن المُختطفون من تحرير أنفسهم والسيطرة على السفينة، وقُتل أربعة أشخاص، وأصبحوا متهمين، وسط نزاع دولي بين أميركا وإسبانيا على ملكية السفينة ومن كان فيها، وجاء دور آدامز، الرئيس الأسبق، الذي يقضى شيخوخته في مزرعته، معتزلا الحياة العامة، ليقود الدفاع عن الأفارقة الأحرار/ العبيد، وقد حصل لهم بالفعل على الحرية.

1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الأحد، 05-09-2021 08:54 م
يعتبر فيلم العجوز والبحر من الأفلام التي تناولت حياة الإنسان في صراعه مع الظروف الصعبة من أجل تحقيق أحلامه التي يؤمن بها، هذا الفيلم الذي اقتبس من رواية لنفس العنوان، يعد أيقونة حقيقية سواء من حيث التصوير أو طريقة سرد الأحداث، وكذلك توظيف الشخصيات، ويعد العجوز والبحر من الأفلام التي كانت مفضلة لدى العديد من الشخصيات البارزة في العالم العربي و الغربي، كصدام حسين رئيس العراق السابق، الذي شاهده أكثر من عشر مرات، بعدما حقق إيرادات فاقت كل التوقعات بمختلف دور العرض التي عرض فيها بمختلف دول العالم. هنا سنتوقف بالتحليل عند مضمون الفيلم، في علاقته بالواقع والصورة التي رسمها للمشاهد بشكل مميز لا يقل عن الواقع، حتى أن أغلب مشاهديه عاشوا الأحداث نفسها لكن في ميادين مختلفة، هذا الفيلم الذي تدور حكايته في قرية صغيرة فقيرة جانب البحر الكوبي على تخوم العاصمة هافانا، يحكي قصة حلم طويل لسيد عجوز مع البحر، يسكن هذه القرية ويعتبر من أبرز ساكنيها، سواء كصياد أو مبارز أيادي ومشجع لرياضة البيزبول الأمريكية، الأمر الذي جعل منه أيقونة الفيلم وشخصيته الأولى الأكثر تأثيرا في المتلقي، تدور حوله كل الشخصيات والأحداث، هذا العجوز الذي راوده حلم صيد سمكة قرش كبيرة منذ أن كان طفلا صغيرا، تلميذا لدى استاذ له في الصيد، توفيت زوجته فدخل في حزن شديد، رغم كل محاولات ابنته الوحيدة التي تعيش وسط العاصمة هافانا في أن يسكن معها ويغير من حياته التقليدية في هذه القرية الفقيرة، لكنه رفض وأصر على تحقيق حله بمساعدة أحد الأطفال ويدعى مانولو. حلم العجوز الذي ركب البحر منذ الصغر، عاش حياته كلها في القرية الفقيرة، حتى بعد وفاة زوجته، وزواج ابنته التي تمثل التيار المعاصر، الحالم بغد أفضل، تيار العصرنة والتجديد في الحياة والأفكار، فيما يمثل العجوز التيار المحافظ على تقاليده وأعرافه، المتعلقة بحياته اليومية، وعمله في البحر، ففي فليم العجوز والبحر لم يرضخ العجوز لما طلب ابنته في مغادرة هذا المكان، بسيط الثياب والأكل وحتى السكن، محب لحياته التقليدية، مؤمن بحلم الحصول على سمكة قرش كبيرة وبيعها من أجل أن يغير من حياته ولا يكون عالة على غيره، لكن حلمه هذا كان يثير سخرية كبيرة بين سكان القرية، لقد حاول أكثر من 88 مرة لكنه فشل في تحقيق حلمه، ومع ذلك يصر على تحقيقه ولايكثرت لما يقوله سكان القرية، فكان يخوض في البحر لأيام ويعود بخفي حنين، يجلس في المقهى يشرب النبيذ والشراب حتى الثمالة ثم ينام ويستيقظ باكرا من أجل الحلم الذي طارده منذ الصغر. ومن خلال هذه المشاهد يتضح مدى القوة والعزيمة التي يتمتع بها هذا العجوز رغم كثرة الخيبات، فالكاتب يحاول من خلال هذه الصور تغيير الأفكار التي تسيطر على كل شخص فشل في تحقيق حلمه بعد سنوات من التضحية، الحياة ليست سهلة كما يتوقعها البعض، فهي مجازفة وتضحية مرات ومرات حتى الوصول إلى الهدف المنشود، وكذلك فعل العجوز طيلة مشاهد الفيلم، لم يستسلم بالرغم من كل الظروف الصعبة التي كانت تحيط به من كل جانب، رغم نظرة أهل القرية وسخريتهم، فالإنسان عليه شق طريقه نحو الحلم دون الوقوع في شراك الآخرين، أعداء النجاح، لأن طريق الحلم لن تكون مفروشة بالورود. هذه القرية الساحلية الفقيرة الجميلة كانت مرتعا للسياح، يأتي إليها الزوار من كل أنحاء العالم، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، البلد القريب من كوبا، سيأتي إليها مواطن أمريكي رفقة زوجته ويغرم بها، وبالعجوز ثم يقرر كتابة رواية عنه وعن أحلامه وحياته وكل ما يتعلق به، وهي التي حولت الى هذا الفيلم، باع سيارته واقنع زوجته بالبقاء معه حتى يحقق العجوز حلمه، هذا الأمريكي هو الشخص الذي يؤمن بحلمك منذ البداية بالرغم من كل شيء، وهنا جسد على شكل شخص غريب في الفيلم وذلك لكون الغرباء أكثر الناس إيمانا بالأحلام من أهل البلد، ثم لسبب آخر كون إن الأمريكي رمز التحضر والعلم والمعرفة، فهو لا يؤمن بالمستحيل أبدا، فيما طرح آخر قد يذهب إلى تلك التراتبية التي ينظر بها الأمريكي إلى الآخر، يطارد أفكاره من أجل الاستمتاع به وبتجربته، سواء فشل أو تمكن من النجاح، ففي كلتا الحالتين سيكون الرجل الأمريكي مسفيدا من نجاح الشخصية أو فشلها، وهذه الأشياء هي التي كانت وراء بقاء الكاتب الأمريكي بالجزيرة، وإيمانه بحلم العجوز. إذا كان الأمريكي جسد دور الغريب المؤمن بحلم العجوز، في فيلم العجوز والبحر فإن العجوز سيكون عرضة للسخرية من طرف أهل القرية، بالرغم من السخاء الذي كان يتميز به هذا الصياد، والإحترام الذي كان يكنه لهم، فالأسماء الأخرى التي كان يصيدها، غير التي يعتاش منها، يعطيها لهم مجانا، ومع ذلك لم تشفع له هذه الأشياء، في أن تؤمن به القرية كلها في تحقيق حلمه، ففي طريق الإنسان إلى تحقيق الحلم سيجد أن أقرب الناس إليه، أشدهم حرصا على فشله، لكن العجوز ظهر في جلباب من الرزانة في التعامل مع هذه الأمور لما يمتلكه من الثقافة التي يمتاز بها، حيث كان حكيما في تعامله معهم ومع سخريتهم، فيلم يرد عليهم ولم يتسابق إلى تفسير فشله أو سر رغبته في تحقيق هذا الحلم، لقد ظل غامضا، كاتما سره في نفسه حتى التحقق، وكذلك على الإنسان عدم الجهر بمخططاته وأحلامه حتى لا يكون عرضة للسخرية في حال فشل فيها. وفي يوم من الأيام سيحقق العجوز حلمه، حينما تمكن من اصطياد سمكة القرش الكبير بعد معركة استمرت ليلة كاملة وأطراف من النهار، بقاربه التقليدي واداوته البسيطة، تعذب كثيرا من أجل ذلك عاش الرعب والخوف، ألم الارتطام بخشب قاربه وحرارة الجو، أمواج البحر ومعركة القرش، لكن خبرته في الصيد جعلته يحقق الحلم ويربط القرش بالقارب بعد ضربة قوية بالرمح، الحلم الذي نازع حياة البحر من أجله تحقق بعد محاولات عديدة، بعد سنوات، كالشخص الذي يسعى إلى الحصول على سيارة أو منزل، أو وظيفة..،وقد يطاردها لأعوام طويلة دون ملل أو كلل، فالمشهد الذي أنهى به الصياد حياة السمكة في فيلم العجوز والبحر يختزل حياة الإنسان العامرة بالطموح والصراعات، لكنها عادة ما تكون تافهة مقارنة بأشياء مرت بحياته اليومية وكانت ستغير منه إلى الأفضل، لكن الحلم وقف حاجزا أمام ذلك، فكل طموح يخفي وراءه طموحات سهلة التحقق في الواقع. تحقق الحلم الذي طارده منذ الصغر وخسر من أجله الكثير وضاعت عليه أشياء عديدة، فرح فرحا كبيرا وراح يعد الأرباح التي سيجنيها من وراء بيعه لهذا القرش الكبير، لكنه اكتشف ان هذا الحلم تافه وبسيط بالرغم من هذه الهالة التي عاشها من أجله وأنه لا يكفيه لعيش ما تبقى من حياته، فضيع بذلك حياته وحياة هذه السمكة، وهكذا فالشخص الذي يطارد حلما، قد يخسر الكثير من أجله دون الوصول إليه، ومعه حياة الناس الآخرين، شعر الصياد العجوز بالخيبة، كما يشعر كل شخص وصل إلى هدف معين بعد سنوات من التضحية، شعر أيضا بظلم القرش لكنه توصل إلى الاستنتاج التالي: “في الحياة خلق القرش ليصطاد ويأكل وخلق الإنسان ليصطاده”، بدأت هواجس نفسه وحوار الداخلي الذي يميز كل شخص منا، ذلك الصراع النفسي المرير الذي يعيشه الإنسان بعد كل نجاح أو فشل. تابع العجوز طريق العودة إلى القرية الصغيرة، بعد أيام عديدة ظن سكانها أنه قد هلك ومات، ولكن الكاتب الأمريكي والطفل مانولو ظلا يؤمنان بعودته فهو صياد عظيم، وأثناء العودة بدأت معركة أخرى من نوع خاص، سيدخل العجوز في عراك مع أسراب القروش والرياح وظروف البحر المتقلبة، سيفقد كل ما يملك من أدوات وجهد ويقرر أن يترك السمكة لحال سبيلها تأكلها الأسماء الأخرى، سيترك الحلم الذي قاتل من أجله وضحى بالكثير ليناله، نظرا للظروف المحيطة به، فكل الظروف تهددته وأرغمته على الرضوخ للفشل، وهكذا تكون أغلب الأحلام التي تتحقق، في النهاية قد يتركها الإنسان لأتفه الأسباب، وقد يكون الآخر هو الدافع لتركها، فبعض الناس هدفهم تدمير الأحلام، ووضع العصا في العجلة، لا لسبب إلا لكنهم فاشلين. عند وصول العجوز إلى الشاطىء، وقف جميع سكان القرية ينتظرون فرحا وصول السمكة أوبما تحصل عليه من أسماك، لكنه خيب ظنهم فراحوا حزينين وغادرو المكان، ولم يبق منهم إلا الطفل مانولو، الذي أحس بدوره بالغضب وظل ينتظر شيء آخر غير فكرة الفشل، كان ينتظر القرش بفارغ الصبر لأنه لم يعد يتحمل سخرية أهل القرية من أستاذه، لم يصدق كلام العجوز، ولا حتى القارب الفارغ، وظل يبحث عن السمكة، لكنه تقبله الهزيمة بعدها وأخد على عاتقه حلم الجوز وبداية رحلة جديدة من أجل مواصلة الحلم، بينما تفرغ العجوز لمشاهدة مباريات البيزبول وعراك الأيدي الذي كان بطلا فيها، ففي الحياة المناصرون يغضبون وقت الفشل لأنهم هم الذين آمنوا بسيدهم ويعلمون الخيبات التي تصيبه وتصيبهم، حزن الفتى الصغير ومعه الكاتب الأمريكي، لأنهما الأكثر إيمانا بالعجوز، بينما سكان القرية لم يعر منهم أي شخص الإهتمام بالعجوز، وعادوا إلى حياتهم بعد مشهد الفشل، بعض الناس ينتظرون الفشل فقط وقد يكون دعمهم في النهاية لغاية في نفس يعقوب، لا من أجل التصفيق للنجاح. (خلاصة فيلم العجوز والبحر) الفيلم هو حياتنا اليومية التي نعيشها، نحلم بتحقيق الأشياء والأحلام، ثم نضحي من أجلها بما نملك وما لا نملك، وما إن نصل إليها حتى نجدها تافهة وقد ضيعنا سنوات عديدة في سبيل تحقيقها وضاعت عنا أشياء لربما أفضل منها. في الطريق إلى تحقيق الحلم ستجد الكثير من الناس يسخرون منك ومن أحلامك لكن حذاري أن تفشل لمجرد سماعك لضحكاتهم وكلامهم، فعندما تحقق الحلم ستجد قلة قليلة هم من يؤمنون بك ويدعمونك، فالجميع يريدونك ناجحا فقط، لا ينظرون إلى الويلات التي مرت بك، بينما أغلب الناس ينتظرون فشلك فقط.