قضايا وآراء

أي معنى لـ"حالة الاستثناء" ولـ"تصحيح المسار" في مشروع الرئيس التونسي؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
منذ 25 تموز/ يوليو الماضي دخلت تونس مرحلة سياسية ملتبسة، وهي مرحلة لا يبدو أن الرئيس قيس سعيد على عجلة من أمره في رفع الالتباس عنها. كما لا يبدو لاختلاف التونسيين والقوى الإقليمية والدولية في توصيفها أي أثر في إخراج مختلف الفاعلين الجماعيين (سواء في ذلك أنصار الإجراءات والرافضين لها) من واقع السلبية والانتظار التي حكمت مواقفهم.

فأنصار الإجراءات ما زالوا يتحركون تحت روح "المناشدة" ومنطقها "الإيماني" ما قبل المواطني، رغم ادعاءاتهم "الثورية" و"العلمانية" و"العقلانية". أما الخصوم فقد دفعت بهم الإجراءات - بل دفع بهم الأداء الكارثي لحكوماتهم المتعاقبة وسوء سمعة مجلس النواب - إلى الهامش وجعلتهم في موضع يكاد يقترب من الصفر في هامش المناورة أو فرض أي شروط للتفاوض حول الترتيبات السياسية الجديدة.

وسنحاول في هذا المقال أن نقارب المعنى الذي يفهم به الرئيس التونسي "تصحيح المسار" وعلاقته بقضيتي الشرعية (بمعنى الأساس القانوني) والمشروعية (بمعنى الإنجاز) خلال حالة الاستثناء "إلى إشعار آخر"، أي إلى حين اكتمال شروط "شرعنة" تصحيح المسار وجعله دستورا للجمهورية الثالثة، كما تعكس ذلك خطابات الرئيس وإجراءاته.
أنصار الإجراءات ما زالوا يتحركون تحت روح "المناشدة" ومنطقها "الإيماني" ما قبل المواطني، رغم ادعاءاتهم "الثورية" و"العلمانية" و"العقلانية". أما الخصوم فقد دفعت بهم الإجراءات - بل دفع بهم الأداء الكارثي لحكوماتهم المتعاقبة وسوء سمعة مجلس النواب - إلى الهامش وجعلتهم في موضع يكاد يقترب من الصفر في هامش المناورة

مهما كان اختلافنا في توصيف الإجراءات الرئاسية وما أسسها من تأويل صحيح أو فاسد للفصل 80 من الدستور التونسي، فإن هذا الاختلاف يظل موضوعا هامشيا بعد أن قُضيَ الأمر وأصبح الجميع أمام واقع جديد يحتل الرئيس فيه مركز السلطة رغم عدم تعليقه للعمل بدستور الجمهورية الثانية ونظامه البرلماني المعدّل. ولأننا لا يمكن أن نزيد في الماضي أو أن نغيره - كما يقول الفلاسفة - فإن الأولى هو الاشتغال على الحاضر وعلى المستقبل الذي يريده الرئيس لتونس بـ"تصحيح المسار". وإذا ما سلمنا بهذا الطرح، فإن أول ما يتوجب علينا الاشتغال عليه هو محاولة فهم "تصحيح المسار" ذاته من منظور الرئيس، باعتماد خطاباته وإجراءاته.

وإذا كان تصحيح المسار في المستوى السياسي هو العودة بشيء ما إلى مساره الصحيح، فما هو هذا "الشيء" الذي يريد الرئيس تصحيح مساره؟ وما هي أسباب انحرافه؟ ومن هم المسؤولون سياسيا وقانونيا عنه؟ وما هو مصيرهم – بل ما هو مصير مختلف "الوسائط" المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية - بعد أن يستوىَ تصحيح المسار على سوقه بعد الخروج من حالة الاستثناء؟

رغم أن الرئيس كان "مواطنا مستقرا"، أي متصالحا أو على الأقل متأقلما مع النظام خلال لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، ورغم أنه لم يكن يوما من مناهضي منظومة الحكم قبل الثورة ولا من خصومها السياسيين أو الحقوقيين، فإنه لم يطعن في الثورة ولم يعتبرها "ربيعا عبريا". فقد حرص منذ أن تحوّل إلى شخصية عامة بصفة "خبير دستوري" على أن يساهم في "تصحيح" بعض الانحرافات المتعلقة بالتأويلات الدستورية أو حتى بالمسار الكلي للانتقال الديمقراطي.
أولا رفض تشكيل حزب سياسي بالتوازي مع رفض أي دعم حزبي خلال حملته الانتخابية (وهو ما يعكس رفضا مبدئيا لوسائط الديمقراطية التمثيلية أو على الأقل رفض أي مديونية معنى تجاهها)، ثانيا التحرك بمنطق المنافس/ البديل للنخب السياسية ونظامها البرلماني المعدل

وإذا ما استقرأنا مواقف السيد قيس سعيد من الدستور ومن النخب الحاكمة والمعارضة قبل الترشح للانتخابات الرئاسية وخلال حملته التفسيرية، وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية التونسية، فإننا نقع على معطيين هامّين: أولا رفض تشكيل حزب سياسي بالتوازي مع رفض أي دعم حزبي خلال حملته الانتخابية (وهو ما يعكس رفضا مبدئيا لوسائط الديمقراطية التمثيلية أو على الأقل رفض أي مديونية معنى تجاهها)، ثانيا التحرك بمنطق المنافس/ البديل للنخب السياسية ونظامها البرلماني المعدل (وهو ما ظهر منذ أن انتقل إليه حق اختيار رئيس الحكومة، إذ حرص على أن يكون "الوزير الأول" من حزب بلا تمثيل برلماني كإلياس الفخفاخ، أو غير متحزب ومن خارج الترشيحات الحزبية كهشام المشيشي).

في التحليل الأخير ليست إجراءات 25 تموز/ يوليو إلا دفعا بتناقضات مسار الانتقال الديمقراطي وآفاته إلى نهاياتها المنطقية. فالرئيس لم يفعل شيئا غير توظيف عطالة منظومة الحكم و"فِخاخ" الدستور والتوافقات الانتهازية التي حكمت النخب التونسية منذ المجلس التأسيسي. فهو لم يمنع النخب الحاكمة من استرجاع الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، ولم يكن حائلا بينها وبين إرساء المحكمة الدستورية طيلة خمس سنوات، كما أنه لم يكن سبب فشل "التوافقات المغشوشة" في اشتغال الهيئات الدستورية بعد انتهاء آجالها (الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري) أو بالتعيين (هيئة مكافحة الفساد).
الرئيس لم يفعل شيئا غير توظيف عطالة منظومة الحكم و"فِخاخ" الدستور والتوافقات الانتهازية التي حكمت النخب التونسية منذ المجلس التأسيسي

وإذا ما أضفنا إلى ذلك سوء إدارة الحكومات المتعاقبة للشأن العام وما يعنيه من أزمة اقتصادية خانقة، فإن الرأي العام كان مستعدا لأي تصحيح/ انقلاب على هذا الواقع المأزوم بنيويا (بحكم استمرار الخيارات اللا وطنية الموروثة من نظام المخلوع) وتأسيسيا (بحكم هشاشة منجز الانتقال الديمقراطي تحت شعار "استمرارية الدولة" وما يعنيه من استمرار منطق الفساد والتخلف والتبعية).

بناء على ما تقدم فإن تصحيح المسار سيكون تأسيسا جديدا انطلاقا من نقطة مرجعية واحدة: الثورة التونسية. أما ما انبنى على تلك اللحظة من دستور ونظام سياسي وديمقراطية تمثيلية وهيئات ووسائط فإنها من مفاعيل الانحراف الأصلي، أي انحراف النخب عن انتظارات التونسيين وعن روح الثورة.

وإذا ما استعرنا بعض مفردات الجملة السياسية للرئيس، فإن "الخطر الداهم" (نتيجة سوء إدارة الشأن العام وخيانة الأمانة) لم يكن إلا نتيجة حتمية للخطر "الجاثم" (الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل الذي لا يمكن أن يفرز من جهة أولى إلا وسائط سياسية مشبوهة أو فاسدة، ولا يفتح المشهد السياسي من جهة ثانية؛ إلا على أزمات دورية تتعلق بتنازع السلطات).

ولم يُخف الرئيس يوما منذ حملته الانتخابية (أو التفسيرية) أنه "يؤمن" بنهاية زمن الديمقراطية التمثيلية، رغم أنه كان أكبر المستفيدين من تلك الديمقراطية، كما لم يُخف بعد جلوسه على كرسي قرطاج أنه لا يعتبر نفسه شريكا (ولا حليفا استراتيجيا) لكل النخب بما فيها "حزامه البرلماني" المعروف؛ التيار الديمقراطي وحركة الشعب.

لفهم "ضبابية" حالة الاستثناء بحكم رفض الرئيس تقديم أية خارطة طريق بسقف زمني أو مهمات واضحة، ولفهم إصرار الرئيس على نسف أي إمكانية لحوار وطني (بمنطق استحالة الحوار مع الفاسدين)، يجب علينا أن نستحضر أن حالة الاستثناء ليست تصحيحا للمسار في أفق الجمهورية الثانية ومنجزها ووسائطها، كما ينبغي علينا أن نتذكر أن الرئيس يتحرك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك. وهو ما يعني أن إدارة حالة الاستثناء لا تقبل "التشاركية"، ولا يحكمها إلا حاجة الرئيس لترسيخ "مشروعية" إجراءاته وتأسيس الجمهورية الثالثة.
ينبغي علينا أن نتذكر أن الرئيس يتحرك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك. وهو ما يعني أن إدارة حالة الاستثناء لا تقبل "التشاركية"، ولا يحكمها إلا حاجة الرئيس لترسيخ "مشروعية" إجراءاته وتأسيس الجمهورية الثالثة

ولا شك في أن ربط الرئيس بين مِلفّي مكافحة الفساد السياسي والاقتصادي، مع الحرص على الظهور بمظهر الحريص على تفكيك علاقة الاعتماد المتبادل التي تحكمهما، سيرسّخ "الشرعية المزدوجة" التي تحكم حالة الاستثناء: شرعية "التفويض" الشعبي المسنود بشرعية "الاصطفاء" الإلهي أو التاريخي لتجاوز الديمقراطية التمثيلية عبر الديمقراطية القاعدية أو المجالسية. ولكنّ الرئيس يعي جيدا أن هذ الشرعية المزدوجة هي شرعية هشة ومؤقتة، وتحتاج إلى "الدسترة" عبر آلية الاستفتاء الشعبي العام. ولكنه لن يُخرج البلاد من حالة الاستثناء - في ظل موازين الضعف الحالية - إلا حين يتأكد من نجاح الاستفتاء، أي قبول أغلبية الناخبين التونسيين بمشروعه.

لقد حرصنا في هذا المقال على أن نطرح الإشكالية وكأن الرئيس يتحرك في فراغ محلي وإقليمي ودولي، أو كأنه هو الفاعل الأوحد في المشهد التونسي. وقد قمنا بذلك لفهم المنطق الداخلي للعقل السياسي للرئيس بناء على خطاباته وسلوكه السياسي قبل 25 تموز/ يوليو وبعده. ولأننا نؤمن بأنه لا تطابق بين مبدأ الرغبة (المصادرة على وجود "فساد مزدوج" أو ذي طبقتين: فساد أشخاص على السطح وفساد مؤسسات وخيارات تأسيسية في العمق) ومبدأ الواقع، ونؤمن بأن "الطوبى" لا يمكن أن تتنزل في التاريخ إلا بعد خيانة نفسها (أو خيانتها من لدن المدافعين عنها لدى اصطدامهم بصلابة الواقع وأبنيته الموضوعية والذهنية)، فإننا نرجّح أن مشروع الرئيس سيضطر إلى "تصحيح مساره" وإلى الدخول في عمليات تسوية مع العديد من الفاعلين المحليين والأجانب، وهي فرضية تعني إعادة هندسة المشهد السياسي بانتخابات برلمانية مبكرة بعد استفتاء شعبي. ومهما كانت آليات هندسة المشهد السياسي الجديد ومخرجاتها وطبيعة الأطراف المستفيدة أو المتضررة منها، فإنها لن تعيد إنتاج المشهد السياسي المأزوم بنيويا وتأسيسيا قبل "حالة الاستثناء".

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)