آراء ثقافية

حكاية الصبي الذي رأى النوم!

تكون الحكاية إما حدثا واقعيا حصل على أرض الحقيقة أو من نسج خيال الكاتب- جيتي
تكون الحكاية إما حدثا واقعيا حصل على أرض الحقيقة أو من نسج خيال الكاتب- جيتي

حين يقوم المؤلف بكتابة أو سردِ حكايةٍ ما، فإنّ هذه الحكاية تكون إمّا حدثًا واقعيًا حصل على أرض الحقيقة، أو تكون حكايةً من نسج خيال الكاتب، لكن ماذا لو جمع الكاتب أو المؤلف بين الأمرين؟

 

فينسل خيوط الواقع وينسج منها عباءة من وحي خياله تختفي تحتها حكايات تختلط فيها الحقيقة بالوهم، والواقع بالخيال، واللامعقول بالمعقول، وماذا لو بدا عدي جاسر الحربش في مجموعته القصصية "حكاية الصبي الذي رأى النوم" بأنه أصاب عين الحقيقة، وما يحدثك به ليس هذيان شياطين أفكاره، بل هو الحدث الذي رآه بأم عينيه، وحدثه به من عاشوه في العصور الغابرة، وبأنه يعرف عن تلك الشخصيات التي تمتلئ بها كتب التاريخ والتراجم والسير ما غفلت عنه صفحاتها، وبأنه يعلم ما لا يعلمه غيره؟ ما كنت لأصدقه لو لم أقرأ سطور ما جادت به مخيلته، مخيلة ذاك الكاتب السعودي، حيث استطاع اختطاف انتباه القارئ منذ اللحظة الأولى، وأخذه في رحلة بلغ طولها ثمانية عشر لصّا، أقصد ثمانية عشر نصّا!


بين الحقيقة والخيال


إن القارئ لمجموعة عدي جاسر القصصية سيلحظ أن معظم الشخصيات الواردة في الحكايات هي شخصيات حقيقية بالفعل، ولم يكن عدي جاسر ليغير أزمنتها ولا أمكنتها، ولا حتى الشخصيات المحيطة بها، أي أنه لم يمسس ما لا يُختلف عليه، بل فعل ما هو أكثر ذكاء وجرأة، لقد خلق حدثًا لا يمكن الجزم في ما إذا كان قد حدث بالفعل أم لا، ويحدثك به كما لو كان شاهدًا عليه، بل ويجعله سببًا خفيّا لأحداث تاريخية عظيمة، كما فعل في حكاية الجارية ذات الشعر الأسود، جارية الخليفة المتوكل وأم ولده المعتز بالله، وقد سماها المتوكل قبيحة لشدة جمالها، كما كانت العرب تسمي الأمة السوداء فضة، والأعمى أبا بصير، حيث أبقى عدي جاسر على كل ما سبق من معلومات تاريخية موثقة، وغاص فيها حتى وصل إلى حجرة الخليفة وروى ما يمكن أن يكون حصل ما بين الجارية وسيدها، بل وجعل من الجارية أسطورة عجيبة تفسر تعلق الخليفة وهيمانه بها، حيث سلبت بشعرها الأسطوري قلب الخليفة، حتى صار يفضل ابنها المعتز على ابنه البكر المنتصر ولي العهد، فاستغل الأتراك كره المنتصر لأبيه وخوفه من أن يجعل المعتز ولي عهده، فتآمر قادتهم مع المنتصر لقتل المتوكل، ثم دخلوا قصر الخلافة وقتلوه بسيوفهم ومكنوا المنتصر من الحكم.

أبطال الحكايات

تزخر الحكايا بالعديد من الأبطال القادمين من الزمن الغابر، يكشف عدي عن جانب خفي فيها، ويجعلك تقف أمامها متأملًا ملامحها، ومستمعًا لما يدور في داخلها، إنه الراوي العارف بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وقد قرر أن يجود علينا بما لا نعرفه، ويفتح عيوننا على ما كنا قد غفلنا عنه، فلو شاهدتموه وهو يجول بنا في أروقة بغداد حاضرة الخلافة، حيث التقى بابن سينا، مجرّدا إياه من هالته المهيبة باعتباره الفيلسوف الكبير وشيخ الأطباء في عصره، ومُلبسا إياه ثوب الإنسان الرقيق، الذي يخفق قلبه مع قلوب مرضاه، ويحفظ حكاياتهم ويداري مصابهم، وبعمق أكثر، لقد أحضر عدي الصبي وأمه المريضة من الحجاز ووضعهما في طريق الشيخ، ليكشف عن الصراع الذي يدور في داخل ابن سينا، بين رباطة الجأش التي تمليها عليه مهنته ويحثه عليها أساتذته، وبين الاستسلام لشعوره المعذّب لحال مرضاه، وألم فقد المريض بين يديه، وقد كشف الصغير، الذي ماتت أمه بالسُل بين يدي بطلنا، عن قلب ابن سينا العامر بالإيمان ومحبة الخير للناس.

في عالم جاسر الساحر العجيب قد يكون البطل طبيبًا أو فلكيا كابن سينا وإبراهيم التنوخي في حكايتي الصبي الذي رأى النوم وحكاية الاسطرلاب، أو وليّا كعدي بن مسافر في حكاية الملَك طاووس، وربما كان البطل امرأة كالجارية قبيحة، وحصة التي صارعت شيطانها فقتلت وقُتلت، أو شابًا في الصحراء البعيدة يرسم فوق الرمل وجه حبيبته وضحى التي تزوجت وبعثرتها ريح القدر، أو حتى مجرد كرة بولينغ أشفقت على إحدى القارورات ولم تُرد أن تكون سببا في هلاكها، فتحدت قوانين الفيزياء وغيرت مسارها!

ما الذي يجمع بين الحكايات وأبطالها؟

أعتقد بأنني أجبت عن هذا التساؤل سابقًا، وبشكل أكثر وضوحًا، فإنني أعتقد بأن ما جمع الطبيب والولي والفلكي والجارية والصبية وكرة بولينغ وغيرهم، هو الصراع الأفلاطوني بين حصانين عليهما أن يختارا طريقًا واحدًا ربما لا رجعة منه، الصراع ما بين النفس الأمّارة واللوامة، ذلك البرزخ الحتميّ الذي لا يمكننا المكوث فيه مدة أطول، ونشتهي الخروج منه ونسعى لذلك وإلا زادت عذاباتنا، لقد برز هذا الصراع في كل الشخصيات الواردة في الحكايات، جميعها وصلت إلى نهاية طريق متفرع، وكان عليها الاختيار، فسلِمَت بعضها وهلكت الأخرى، وربما كان في الهلاك نجاة!

اقتباسات

كان عدي جاسر يبدأ حكايته باقتباس للأدباء العالميين أو حتى بالآيات القرآنية، فيذكر عباراتٍ تشي بمضمون الحكاية وتعكس لمعانًا خجولًا لدرّها المكنون، وقد دل ذلك على ثقافة لا يستهان بها لدى الكاتب، ليس لجمال اختياراته وتنوعها بل لمناسبتها أيضا ومطابقتها لجملة الحال وواقع الأحوال، وبالنسبة للغته فقد كانت سلسة وانسيابية عذبة، أما أسلوبه فقد وجدته شيّقا، يشابه حكايات ألف ليلة وليلة، وجولة فوق البساط السندبادي الطائر، إلا أن الراوي كان رجلًا بخلاف شهرزاد، إلا أنه استطاع أن يباريها ويسرد حكايات لا يمكن الإفلات منها قبل النهاية.

 

التعليقات (1)
نسيت إسمي
الجمعة، 03-09-2021 03:17 م
'' كان ياما كان وقصص أخرى '' أخيرا صدرت ترجمة عربية لنص من نصوص الكاتب البوسني نجاد إبروشيموفيتش الذي يعد الآن واحدا من أهم كتاب البوسنة والهرسك وأكثرهم قراءة من قبل الشباب حيث طبعت روايته الأخيرة "الأبدي" طبعة ثامنة باللغة البوسنية هذا الشهر، وهي في طريقها للترجمة الإنجليزية قريبا. أما النص الذي صدر باللغة العربية فهو كتاب قصصي بعنوان "كان ياما كان" . ( من مؤلفاته الروائية ) نشر عمله الأول «منزل مغلق الأبواب» في العام 1964، وهي مجموعة قصصية. أعقبها برواية «الشقي» في عام 1968، ثم توالت أعماله التي بلغ عددها 16 رواية حتى الآن، منها «الحي والميت»، و«تنين البوسنة»، و«قُرّة بك»،المسخ والجنية(قصص)، الأخوة والوزراء، كتاب آدم قهرمان، يومان في العقار، الأبدي (2005) وسواها. وترجمت بعضها للتركية والسلوفانية، والإنجليزية وأخيرا للعربية. حققت روايته الأخيرة شاهين‌پاشيتش أو «الأبدي» بالبوسنية نجاحاً كبيراً وبلغت طبعاتها المتوالية ثماني طبعات بإجمالي 12,000 نسخة . ( من مؤلفاته المسرحية ) دولاند في سراييفو 2000، إضافة إلى عدد من المسرحيات التي كتبها في عام 1988. ( من دواوينه ) زنابق روحي 1994، البوسنة المفروشة ببساط 1996. تمت مسرحة العديد من أعماله وعرضت على خشبة المسرح. ترجمت أعماله إلى اللغات التشيكية والتركية والألبانيةوالإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والعربية. قصة «صورة القيصر» من كتاب «كان ياماكان». ( سمات قصصه ) له(سبعة وسبعين قصة قصيرة) لا تخلو من روح الفكاهة من جهة، وهي أيضا ذات دلالات عميقة، وأحياناً عبثية تماماً، وهذا ما يمنحها صبغة مختلفة نسبياً بالنسبة لمثل هذا النوع من النصوص؛ بسبب انتمائها للقص من جهة، واشتباكها، في الآن ذاته، مع حس الحكاية الشعبية، بالرغم من أنه يؤكد لي انه لم يهتم إطلاقا بالحكايات الشعبية أو التراث السردي الشعبي أو الفلكلور. ( من أقواله ) يقول نجاد إبريشيموفيتش إنه لم يقرر أن يكون كاتبا، وإنما اختارته الكتابة الأدبية لكي يشتغل بها، أما هو فقد اختار النحت لكي يمارسه فقد بدأ الكتابة الأدبية في السابعة من عمره، وشرع في نشر أعماله الأدبية في الثالثة عشرة وبدأ في ممارسة النحت وعمره ثمانية عشر عاما، «وجدت في الرواية على نحو خاص الشكل الفني الذي أتمكن به من التعبير عما أرغب فيه بالشكل الذي يرضيني أكثر من أي شكل فني آخر. وقد حاولت أن أعبر عما أرغب فيه بالفن ولكني لم أشعر بأنني نجحت بقدر نجاحي في الأدب، وخصوصا في الرواية.وأعتقد أن كل فنان يسعى للوصول إلى الكمال، سواء استطاع أو لم يتمكن من تحقيق ذلك، فأنا على يقين كامل من أن أي فنان حقيقي لا بد أن يتمكن منه اقتناع أنه يستطيع أن يصنع معجزة بما ينجزه، فإذا لم يكن لديه هذا الاقتناع، فلن أفهم لماذا يقرر أن يخوض مضمار الفنون من البداية. فلا أهمية لكونه فنانا في هذه الحالة».ويستطرد موضحا:«كل شيء له أهميته بطبيعة الحال؛ الموضوع والشخصيات والأسلوب، لكن المهم أن يكون ما يكتب، في النهاية، مثيرا للدهشة والاهتمام، بحيث لا يمكن للنص أن يمر مرور الكرام، لا بد أن يكون باهرا بشكل ملحوظ».

خبر عاجل