مقالات مختارة

"سيجون ٢"

عبد المنعم سعيد
1300x600
1300x600

"سيجون Saigon" كانت عاصمة «جمهورية فيتنام» (١٩٥٥-١٩٧٥) ولم تتغير الدولة حتى صارت «جمهورية فيتنام الاشتراكية»، وأصبحت العاصمة «مدينة هوشى منه» البطل الأسطوري للدولة.

كان هناك أسباب لشهرة المدينة في رجالها ونسائها، ولكن ما جعلها عالقة في أذهان وصور الإعلام العالمي كانت تلك الصورة التي تعلقت برحيل المتعاونين مع الولايات المتحدة أثناء احتلالها لفيتنام الجنوبية، وهم يتدافعون ويتسلقون بعضهم البعض في محاولة لدخول طائرة هليكوبتر معلقة فوق سطح مبنى السفارة لكى تأخذهم لواحدة من السفن.

المشهد بات علامة من علامات الحرب في فيتنام التي عرفها جيلنا في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وبات واحدة من تلك القصص التي حكتها السينما بين من أحبوا وسعوا إلى لقاء في السفارة، ومن أُكرهوا في متابعة قاتل كانت القوة الضاغطة هي ثوار فيتنام الذين دخلوا المدينة من جميع الاتجاهات، بعد الاتفاق على تسوية سلمية بين شمال وجنوب فيتنام، تجرى بعدها انتخابات.

ما حدث فعليا كان أمرا آخر، كانت أمريكا قد قررت الانسحاب بسبب خسائرها في الحرب، وأكثر لأن الشعب الأمريكي لم يعد لديه شهية للقتال في حرب لم تعد لها نهاية، وكان رئيسها- ريتشارد نيكسون- في طريقه إلى المحاكمة بعد فضيحة «ووترجيت».

القصة بكاملها كانت هي ما تكرر يوم الأحد ١٥ أغسطس الجاري، ولكنها لم تكن فوق سطح سفارة، وإنما كانت في مطار كابول عاصمة أفغانستان، الناس يتدافعون أمام وخلف وحول طائرة هائلة مغادرة بعد حرب استمرت عشرين عاما، ومن بينهم من أدى الخدمة مع الدولة المحتلة، وتوفى خمسة منهم، وذلك بينما تتدافع قوات طالبان من اتجاهات العاصمة الأربعة، مستولية على قصر الرئاسة، ومعلنة عن عصر جديد، ولكنه لم يكن عصر هوشي منه الاشتراكي الشيوعي، وإنما عصر من الأمراء الشارعين سيوفهم ليس فقط على الرقاب الأمريكية المحتلة، وإنما الرقاب الأفغانية التي خرجت في زعمهم على الدين.

القصة حتى في تفاصيلها لم تكن مختلفة عن القصة الفيتنامية، بدأت المفاوضات في عهد الرئيس السابق ترامب، وجرى الاتفاق على مفاوضات تجرى مع الحكومة القائمة التي لم يستشرها أحد - وهى «المنتخبة» - في أمر، وعندما جاء الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض كان قد اتخذ قرارا بألا تستمر أمريكا في حرب ليس لها نهاية، أو حرب أبدية.

وضع الرئيس الأمريكي حدا زمنيا ينتهى مع ذكرى أحداث سبتمبر الدامية عام ٢٠٠١، وساعة الإعلان بدأت طالبان في الزحف على العاصمة حتى دخلتها من أركانها الأربعة، بينما بدأ ملايين من الشعب الأفغاني البحث عن الخلاص، بالهجرة واللجوء إلى دول أخرى. وبينما كان الخروج الأمريكي مفهوما ومعلنا، فإن الانهيار الكامل للحكومة الأفغانية لم يكن مفهوما، ربما كان من فرط الاعتماد على الآخرين، وربما كان بسبب الفساد وفقدان العزيمة، أو ربما كان ببساطة كما هائلا من الخوف والذعر الذى نجحت حركات إسلامية في بثه من خلال أبواق القاعدة وداعش وحماس، الذين رأوا في «هزيمة» أمريكا بداية لنصر عالمي عظيم. وكما لم يعلم الأمريكيون التاريخ وقت فيتنام، فإن طالبان وتابعيها والمعجبين بها لم يعلموا التاريخ القديم، وأن الهزيمة الأمريكية انتهت بالانتصار في الحرب الباردة، وريادة العولمة. وعندما بزغت فيتنام في النهاية، كانت دولة رأسمالية!.

ما يجرى الآن في المسألة الأفغانية فيه الكثير من ضباب الحرب الذى لا يغنى عن تفاصيل الوقائع الجارية، والمشهد الذى سوف يظهر في كثير من الأفلام والقصص، وهذه المرة كان القائمون على التسجيل قناة «الجزيرة» وهى تعتبر الانتصار نصرها الخاص.

وهذه المرة ليس معلوما من هي طالبان التي أتت الآن بعد غياب في الجبال لسنوات طويلة، ولا كيف أصبحت أفغانستان بعد معرفة بالتعليم خاصة للنساء، واطلاع على ما يجرى في العالم، خاصة أن طالبان وظهيرها الطائفي «البشتون» ليسا وحدهما على الساحة، وهناك آخرون من الأزبك والطاجيك والشيعة في هرات، وغيرهم كثر.

وهناك إطلالات الصين والروس والجمهوريات السوفيتية السابقة، وهناك إيران التي ترى في طالبان ثورة «إسلامية» ولكنها سنة، وصديقة لحزمة واسعة من المنظمات الإرهابية.

سوف نسمع كثيرا من الإخوان المسلمين وتابعيهم عن ثبات النصر الموعود، وأن سقوطهم في تونس لم يكن آخر القصص، ولكن الواقع الذى لا ينبغي استبعاده هو أن هناك صراعا في المنطقة، وربما في العالم أيضا، بين قوى تريد أخذه إلى الأمام، وأخرى تريد جذبه إلى الخلف. وللأسف فإن المسرح هو واقعنا، وللأسف أكثر أن طالبان لا يمكنها أن تقيم فيتنام أخرى.

 

نقلا عن "المصري اليوم"

 

0
التعليقات (0)