كتاب عربي 21

الانقلابات تغتصب حقوق المواطن.. المواطنة من جديد (62)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
قلنا في ما سبق إن المواطنة تتمثل في بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيمية، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات، تنشط في المجالات الاجتماعية والسياسية والقانونية والتشريعية، حيث تناقش العلاقات بين المواطنين بغض النظر عن الاختلافات فيما بينهم، وتفيد بأن الجميع له من الحقوق وعليه من الواجبات وفقا لقاعدة المساواة، ولكل مواطن شخصية قانونية مستقلة.

وأكدنا أيضا أن الحالة الاستبدادية تفترس مفهوم المواطنة وتشكل تآكلا لجوهره وقيمه والممارسة الحقيقية من خلاله، وأن الانقلابات كما تشكل حالة اغتصاب للسلطة تؤدي إلى حالة اغتصاب عامة للسياسة واعتداء سافر على المواطنة في كل معانيها؛ خاصة بما تمثله من قطع الطريق على مسار ديمقراطي، حيث تحاول الانقلابات من كل طريق محاصرة المواطن وانتهاك حقوقه بشكل مباشر وغير مباشر، وتصادر حقوقه التأسيسية والسياسية والمدنية والمجتمعية.

وتبدو طبعة الانقلابات الجديدة فيما بعد الثورات العربية مستهدفة الحالة الثورية بكل أبعادها، وكل أفق بها يتعلق بأشواق التغيير لكل مظاهر الحالة الاستبدادية وفتح الطريق واسعا لحالة من الانتقال الساسي والديمقراطي المأمول حفاظا على الحقوق الإنسانية وحقوق المواطنة الأساسية؛ نيلا للعيش الكريم والكرامة الإنسانية، وتمكينا للحرية الأساسية والعدالة الكلية وعلى رأسها العدالة الاجتماعية.
خطة المضادين للثورات في الداخل وفي الإقليم وعلى المستوى الدولي في محاصرة تلك الثورات والالتفاف على أهدافها وغاياتها، ومحاولة تحويل مساراتها الحقيقية إلى أشكال أخرى من الانقلابات بكل طبعاتها عسكرية صريحة أو مغلفة بثوب مدني وصورة ظهير شعبي زائف ومزور، أو في شكل حروب داخلية تجعل المطالب السياسية في آخر ذيل القائمة

كما يبدو الحال في خطة المضادين للثورات في الداخل وفي الإقليم وعلى المستوى الدولي في محاصرة تلك الثورات والالتفاف على أهدافها وغاياتها، ومحاولة تحويل مساراتها الحقيقية إلى أشكال أخرى من الانقلابات بكل طبعاتها عسكرية صريحة أو مغلفة بثوب مدني وصورة ظهير شعبي زائف ومزور، أو في شكل حروب داخلية تجعل المطالب السياسية في آخر ذيل القائمة، بينما يعتبر الأمن الوجودي المطلب الأول في استمرار مجرد الحياة، أو التهجير القسري طلبا للحياة. وهو ما يلاحظه المشاهد لما آلت إليه حالة الثورات في البلاد العربية من محصلة كارثية؛ بفعل هذا التحالف الخطير من المضادين للثورات والطلب على التغيير.

نتذكر هذه المشاهد بمناسبة إحكام الحلقة في محاصرة كل حالات الثورات العربية؛ وبروز أخبار وتواليها حول انقلاب قاده في الظاهر الرئيس التونسي "قيس سعيد" والذي أشير إلى احتمال وقوعه من قبل أشهر في أخبار صحفية؛ ثم تواردت أخبار منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو تحمل إجراءات غير دستورية، وإن حاول صاحبها المنقلب أن يلبسها ثوب الدستور تارة، ومحاربة الفساد تارة أخرى، ضمن دعاوى ودعوات لا تملك سندا إلا من استغلال ظروف قائمة وأحوال متفاقمة ودعاوى فاسدة؛ تسوّغ قطع الطريق على مسار ديمقراطي حتى لو كان عسيرا أو متعثرا ويتخذ من كل ذلك غطاء زائفا.

وتخرج القوى المضادة للثورة فتتحدث عن حالة تصحيحية أو تحقيق الأمن والاستقرار؛ في لعبة توزيع أداور بشكل لئيم وحقير ضمن محاولة للتبرير لإجراءات استبدادية انقلابية على طريق الفاشية، وفرض أمر واقع جديد خطط له حلف المضادين للثورات، مغموسا في حملات إعلامية مبررة لكل ما حدث وربما ما سيحدث على طريق الاستبداد وتمكينا لحكم الطاغية، ومنغمسا في مال سياسي مشبوه ورشاوى واضحة فاضحة.
إجراءات تحمل تجميد البرلمان وتركيز السلطات في يد المنقلب ضمن مشروع استبدادي فاشي جديد؛ ومن أسف أن يتم كل ذلك بمحاولة التمسح بإعمال الدستور، وأن يأتي كل ذلك على يد رئيس منتخب؛ كانت مهنته أستاذا في القانون الدستوري. إذ يُعد كل ذلك تمويها على انقلاب متكامل الأركان؛ وعلى غرار الحالة الانقلابية في مصر، وإن اختلف الشكل مع اتحاد المآل والمحصلة

إجراءات تحمل تجميد البرلمان وتركيز السلطات في يد المنقلب ضمن مشروع استبدادي فاشي جديد؛ ومن أسف أن يتم كل ذلك بمحاولة التمسح بإعمال الدستور، وأن يأتي كل ذلك على يد رئيس منتخب؛ كانت مهنته أستاذا في القانون الدستوري. إذ يُعد كل ذلك تمويها على انقلاب متكامل الأركان؛ وعلى غرار الحالة الانقلابية في مصر، وإن اختلف الشكل مع اتحاد المآل والمحصلة. ففي الحالة المصرية قام انقلاب عسكري استدعى للأسف رئيس المحكمة الدستورية ليكون رئيسا مؤقتا وشكّل غطاءً للانقلاب العسكري؛ بينما في الطبعة التونسية قام رئيس منتخب وأستاذ للقانون الدستوري ليستدعي انقلابا، معلنا إجراءاته الانقلابية في صورة يحيط به العسكر وبعض القوى الأمنية.

كنا في النموذج التونسي في الثورات العربية عند كل تساؤل عويص يؤشر على عسر التحول الديمقراطي نقول "الإجابة تونس"، نزكي الحالة التونسية في المسار والفعل والممارسة السياسية؛ وكنا نزكي انفتاح الأفق في سياقات توافقات سياسية وتنازلات متبادلة بين القوي السياسية، وخطاب سياسي يستوعب ولا يستبعد، ومجتمع مدني قوي يتمتع بفاعلية في الحركة، وقوى عمالية تتمثل في اتحاد الشغل؛ إلى أن برزت في الآونة الأخيرة ممارسات وخطابات تصنع حالة من الفرقة والفوضى، وتؤسس لانتشار فيرس الاستقطاب اللعين، وتتصاعد لغة الاتهامات للإسلاميين، وبروز أطراف متطرفة تستخدم خطابا مؤدلجا يضر ببعض إمكانات التوافق السياسي؛ ليتحرك فيه من يتحرك، ويُحرِّك فيه من يحرك أنماطا غير مواتية للتوافق، في أزمة صحية مستحكمة بسبب فيرس كورونا وتفاقم الأزمات المعيشية؛ ومع إغفال من أكثر الأطراف الفاعلة أن السياسة هي معاش الناس.

وهنا اختلت المعادلة بين حماية الثورة الحقيقية ومستلزمات الحفاظ عليها كيانا وأهدافا وأدوارا؛ وبين هؤلاء الذين يمثلون تحالفا مضادا للثورات والتغيير، وافتعال الأزمات والتأزيمات واستغلال أحوال، فضلا عن تدخلات إقليمية وخارجية؛ وبين ثورة توقعات لدى عموم الناس والجماهير تتعلق بمعاشهم ومطالبهم وسد ضروراتهم وحاجاتهم الأساسية التي حدث فيها كثير من الإغفال والإهمال؛ فكان النداء عليهم في الأزمات أمرا، وكأن لسان حالهم للسياسيين في مجملهم: لقد نسيتمونا فكذلك اليوم تنسون.
الجماهير لا تستدعى فحسب في وقت الأزمات، ولكنها الظهير الحقيقي للثورات، وأولوياتهم في العيش الكريم والكرامة الإنسانية؛ والحرية الأساسية والعدالة الاجتماعية يجب أن تكون على رأس اهتمامات الثورات وأهلها وأصحاب المصلحة في التغيير

إن الجماهير لا تستدعى فحسب في وقت الأزمات، ولكنها الظهير الحقيقي للثورات، وأولوياتهم في العيش الكريم والكرامة الإنسانية؛ والحرية الأساسية والعدالة الاجتماعية يجب أن تكون على رأس اهتمامات الثورات وأهلها وأصحاب المصلحة في التغيير. اختلال هذه المعادلة في العمل اللازم للقيام بكل الواجبات والموجبات التي تتعلق بالحالات الثلاث أجهد وربما أجهض وأثّر سلبيا على الحالة الثورية وثمارها.

من المهم أن نذكر أيضا أن إدارة التوافق والتعدد والاختلاف؛ وكذا إدارة المشترك هي من المسائل الجوهرية في إدارة عمليات الانتقال، وأن الرصيد الذي بدأنا به يجب أن نراكم عليه؛ مكرسين إيجابياته وراصدين سلبياته ومعوقاته وتحدياته، ومواجهة كل ذلك بما يليق به من ممارسات وخطابات؛ ذلك أن "الترويكا" التي بدأت بها الخبرة الثورية التونسية كانت قابلة للاستثمار، وإن تهميش هؤلاء المؤمنين بالديمقراطية مثل الدكتور المنصف المرزوقي والمقاتلين من أجل الثورة؛ أفضل من المراهنة على المجهول مثل "قيس سعيد"؛ القابل للتوظيف.

وفي الغالب فإن المشهد التونسي قد أصابته بعض السلبيات الخطيرة، وأن الحركة السياسية من القوى صاحبة المصلحة في التغيير وفي تعزيز وتمكين المسار الديمقراطي كانت أبطأ من حركة المضادين بالثورة، وانشغل البعض بمناوشات جانبية ربما صرفتهم عن المعركة الأساسية.
كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد وتتفرق في مواجهته؛ ضمن مسارات صناعة الفرقة والكراهية والفوضى، فتسمح لأطراف خارجية ضمن بيئة الاستقطاب العقيمة أن تعبث بشئون البلاد والعباد وتقيم صروحا للاستبداد والاستعباد

مرة أخرى نعود الى ما بدأنا به: كيف يأكل الاستبداد والانقلابات حقوق المواطنة، فتصادر حق الشعوب في اختيار ممثليها؟ وكيف تدوس على الاستحقاقات الانتخابية بيسر وسهولة؟ وكيف تنتهك الأصول الدستورية الحامية للحقوق والخيارات؟ وكذا فإن من أهم التساؤلات: كيف نفكك الاستبداد بنية وممارسات وبيئة قابلة لإعادة إنتاجه؟

ولعل التساؤل هنا أيضا حول كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد وتتفرق في مواجهته؛ ضمن مسارات صناعة الفرقة والكراهية والفوضى، فتسمح لأطراف خارجية ضمن بيئة الاستقطاب العقيمة أن تعبث بشئون البلاد والعباد وتقيم صروحا للاستبداد والاستعباد..

أسئلة لم يعد طرحها رفاهة من أي قوى لها مصلحة في التغيير، والتغيير الاستراتيجي الكبير قادم لا محالة؛ والسؤال المهم كيف نعد له العدة فكريا وحضاريا وفعليا؛ وعيا وسعيا.. "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" (التوبة: 46).

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)

خبر عاجل