آراء ثقافية

قمر عمي الحاج..

CC0
CC0

هذه إعادة صياغة لواقعة حقيقية، فقط حررت لغة شخوصها من عاميتها، وحرصت على نقاء مقاصدهم ومنطقهم.

 

كنت في مراهقتي الباكرة حين سمعت طرفا من الحكاية، قريبنا المحبوب ينكر هبوط الإنسان على سطح القمر، ينكره تماما، وأقرانه ومجايليه ما زالوا يمازحونه، وقد يتطرف أحدهم ويسخر منه مع بقاء الود والاحترام، وكان قد مضى بضع سنوات على البداية، حين تحلقوا حول تلفاز يشاهدون تلك اللقطات المصورة، ويسمعون تلك الجملة الخالدة: "إنها خطوة إنسان صغيرة، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية"، وإذ بقريبنا يصرخ: كذب، مستحيل.

 

كان متزوجا وأبا لبنتين وولدا، محبوبا ومحترما، ومتزنا، وظل مصرا على عدم تصديق ما بات الجميع لا يجادلون في وقوعه. وبمرور الأيام أضحت الكلمتان (كذب، مستحيل) لازمة بين شباب قريتنا في كثير من المواقف ذات الطابع الساخر، أحيانا قليلة يستعيدون الواقعة، لكنهم في الأغلب لا يتوقفون عند مصدر الكلمتين؛ كعادتهم مع الكثير من اللازمات "الإيفهات" المتوارثة من التلفاز والسينما ومن الحكايات الشعبية والمواقف الاجتماعية الصارخة، ونادرا ما أنفلت مراهق نزق وأوقف قريبنا ليسأله: أما زلت، فعلا، لا تصدق أن الأمريكان هبطوا على القمر؟، وربما في مرة أو مرتين لعن قريبنا جدود المراهق وجدود الأمريكان معا، خاتما: كلكم مغفلون، بلى: كذب ومستحيل.

لم تجعل تلك الواقعة من قريبنا بهلولا، فهي على الرغم من وقعها الصارخ، متعلقة بشأن ثانوي لا يتصل باليومي والمعيش الذي يستعاد دائما، وجاء وقت تجمدت الحكاية في الذاكرة الجماعية لقريتنا، ونادرا للغاية ما استدعيت، حتى جاء يوم، وطرق باب عمي الحاج (كان قد مر أكثر من خمسة وأربعين عاما) طارق، وكان يقيم في بيته بمفرده، كانت حفيدته، وقد أصبحت أما، وزوجتا حفيديه، يتناوبن على خدمته بعد رفضه المكوث في بيت بنته التي مازالت مقيمة في القرية، وكان لكل منهن مفتاحا فلا يضطررن لإيقاظه إن كان نائما، سمع الطرق الخفيف، وكان قريبا من الباب ففتحه ولم يجد أحدا، نظر كرة أخرى في الاتجاهات الثلاثة فلم يجد أحدا، أغلق الباب الخشبي العتيق والثقيل، لثواني ثم عاود وفتحه واجتاز العتبة الخارجية ووقف ونظر فلم يجد أحدا، في عودته لمح جريدة أمام الباب، مطوية، التقطها ودخل، ثم وضعها على الطاولة العريضة التي توضع عليها مستلزمات الشيخوخة. تمدد قليلا ثم قام وامسك بالجريدة وقلب صفحاتها، لم يجد في العناوين ما يجذبه، طواها، ووضعها على الطاولة، وتمدد، ثم وكأنه ينتظر حدثا جلالا جذب الجريدة ووقع بصره على العنوان الذي مر عليه دون أن يثير انتباهه: "المخرج ستانلي كوبريك يكشف عن "كذبة" هبوط  أول أمريكي على سطح القمر"، وصرخ: كذبة، ثم مرة أخرى بصوت أعلى كذبة، ومع كل خطوة في الدار وهو يجمع ما يرتديه كان صوته يرتفع أكثر، كذبة ويقرأ سطر، كذبة ويقرأ أخر.

يطرق بيده التي تمسك بالجريدة باب بيت أقرب أقرانه ومجايليه الأحياء، يقرأ عليه الخبر، ويغادر، حتى أنتهي من بيوت الأحياء، ووقف أمام بيت أحد المتوفين مترددا، ثم قرأ الخبر بصوت عال، وغادر، ليمر على بيوت بعض من المراهقين النزقين الذين أصبحوا على أعتاب الشيخوخة، كم بيت؟ لم يحص أحدا عددها.

كان عمي الحاج في نشوة لا حدود لها، يصرخ، يخطأ في القراءة، ويصحح، ولا يسمح لأحد بالتعقيب، أو بالسؤال.

في المساء هاتفني أكثر من صديق وحكي لي ما جرى، كان سؤالي الأول: من الذي وضع الجريدة أمام البيت، ولماذا أختفى ولم يٌظهر نفسه؟ لم يجب أحدا منهم فهم جميعا لا يعرفون، وكان سؤالي الثاني هذا الخبر مر عليه أكثر من ثلاثة أشهر فأي جريدة هذه التي تنشر خبرا كهذا مر عليه هذه المدة؟، ومرة أخرى لا إجابة فعمي الحاج لم يدع أحدا يلمس الجريدة.

بعد نحو أسبوع هاتفني بنفسه، اتصال مقتضب للغاية، وواعدته أن أزوره فور وصولي للقرية في نهاية الأسبوع.

بين اتصاله وسفري جمعت كل ما يمكنني جمعه على عجل مما قد يفيد في الإجابة على الأسئلة التي توقعت أن يطرحها.

بدا هادئا، وقال: تصور، اسمع، وقرأ: إن كل مشاهد هبوط أول إنسان على سطح القمر مزورة، فأنا كنت ذلك الشخص الذي صور ذلك"، من الذي يتحدث؟، المخرج الأمريكاني، وبحث عن اسمه، قلت: كوبريك، قال: لا، اسمه ستانلي، ضحكت، فأطال النظر إليّ، ثم راح يبحث في الجريد التي كان يمسكها بكلتا يديه، وقال، نعم هو نفسه، ثم أضاف: اسمع هذه: "تحدث بشكل مفصل وشامل، من؟، المخرج، عن كيفية اختلاق وكالة "ناسا" الأمريكية للفضاء كافة عمليات الهبوط على القمر، وكيف أنه كان يصور على الأرض جميع مشاهدات البعثات الأمريكية المزعومة إلى القمر"، تصور، قلت: متصور، ثم فتحت حقيبتي وبدأت أخرج منها ما أعددته، وقلت له: أنا جاهز لأي أسئلة، نظر إلى الجريدة مطولا، وقام ثم دخل إلى غرفة نومه، وعاد ولم تكن الجريدة بيده، وقال: أنت هل لديك أسئلة؟، قلت: واحد فقط، قال: أعرفه، لماذا طلبت حضورك، صح؟، ابتسمت، فقال: أريدك أن تحدثني عن عم ستانلي المخرج.

 

اقرأ أيضا: "الطباخ" و"غوغل" في ملاعب: اللغة والفقه والعولمة


كنت قد حملت على الذاكرة المحمولة جميع أفلام كوبريك، وبعضا من المقالات والصور له، وعددا هائلا من المتابعات الخبرية والتعليقات التي تدحض المقطع المصور الذي بثه المخرج باتريك ميوريي وزعم أنه صوره مع كوبريك قبل ثلاثة أيام من وفاته في مارس/آذار من عام 1999 ، وقوله أنه وقع قبل بدء تسجيل الحوار مع كوبريك على اتفاق يلزمه بعدم نشر أو الإعلان عن فحواه خلال 15 عاما من يوم وفاة كوبريك.

وكنت أخرج أدواتي كلها حين سألني: ما الذي تفعله؟ أريدك أن تحكي لا أن ترني، ماذا تعرف عن ابن.. وسكت، ثم قال: كل هذه السنين انتظر أن ينصفني أحدا، قل ماذا تعرف عنه؟.

وبدأت أحكي ما أعرفه، وعمي الحاج يستمع، يقوم ليجلب فاكهة من الثلاجة، ويقول: أحكي أنا أسمع، يٌعد القهوة، وأنا أحكي، وعمي الحاج منصت.

 

حتى قلت: أما الفيلم الأقرب لموضوعنا، وهو بالمناسبة فيلم رائع للغاية، أحد أفلامي المفضلة، أنه "أوديسا الفضاء 2001"، فسألني: ماذا تعني كلمة أوديسا هذه؟ وأجبته: الأوديسة: ملحمة شعرية إغريقية، يونانية يعني، عن بطل منتصر في حرب اسمها طروادة، وهذه الحرب استغرقت تقريبا عشر سنوات، واسم هذا البطل اوديسيوس، وهو يتعرض في رحلة عودته إلى بلده في جزيرة اسمها إيثاكا، لأهوال ومصاعب رهيبة، والرحلة استغرقت عشر سنين أخرى، ما يعني أنه غاب عن بيته عشرينا عاما كاملة رأي فيها ما لم يره أحد من رفاقه في الحرب، والعجيب إن زوجته ظلت تنتظره، وزوجته اسمها بينيلوبي، وخلال غياب زوجها حاصر قصرها بعض النبلاء وطالبوها بالزواج من أحدهم، فأوهمتهم بالموافقة واشترطت عليهم أن يتركوها حتى تحيك ثوب زفافها، وكانت تغزل في النهار أمامهم، وتنكث ما غزلت في الليل على أمل أن يعود زوجها، وحين عاد قتل جميع من انتهك حرمة بيته.

عمي الحاج كان ينصت مأخوذا، وحين توقفت، قال بينيلوبي هذه عكس تلك التي ذكرها القرآن الكريم، أظن في سورة النحل "نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا"، في التفاسير كانت امرأة خرقاء تعيش بمكة، وصارت مثلا لمن نقض عهده بعد توكيده، لكن السيدة اليونانية أصيلة، وعلى العموم الحكاية لطيفة ومعبرة، لكن ما علاقتها بالفضاء وبسنة 2001، قلت الفيلم عرض سنة 1968، قبل الكذبة الكبيرة، كذبة المشي على القمر، فأجبته المخرج ستانلي كوبريك شارك في كتابة القصة، وعندما سألوه عن عنوان الفيلم قال: "خطر لنا أنه كما كان الإغريق يعتبرون البحر ومساحاته الشاسعة لغزا وشيئا معزولا، فكذلك يعني الفضاء لجيلنا"، ونظرت إلي عمي الحاج وكان كأنه تجمد بفعل قوى سحرية، لدقائق، ثم استفاق وقال: كرر ما قلته، فكررت، فقال: هي بنا نتمشى بين الغيطان.

بقينا صامتين لفترة بدت لي طويلة، كان الليل قد تقدم وتوغلنا بين أشجار البرتقال وزهراتها الفواحة تفضى على الصمت والليل غموضا، ولم أرد أن استعجل ما بدا لي وكأنه التصريح الحاسم، دقائق بعد هذه الخاطرة وتكلم عمي الحاج: حين نظرت وسمعت المشي على القمر بدا الأمر غريبا فصحت بكلمتي: كذب، مستحيل، وأمام أصحابي وأقاربي لم أكن قادرا على تفسير شعوري الرافض للأمر، ثم بمرور الأيام استعذبت الشعور بالاختلاف، بأن تكون ضد الجميع، متمسك برأيك وموقفك، أما شعوري الحقيقي، يعني الذي جعلني لا أصدق فلم يكن بسبب اعتقاد ديني أو رفض للعلم، كان شعورا غامضا لكنه لذيذ، هل تصدق، كان تقريبا ما عبر عنه المخرج، في الجملة الأخيرة التي قرأتها، كان الفضاء لغزا بعيدا لا نطاله، فكيف نطأه، صحيح الكلمة، نطأ، صح، هل تفهمني، لقد فهمني ستانلي".

 

اقرأ أيضا: مراهق يسافر مع بيزوس للفضاء بتذكرة قيمتها 28 مليون دولار


 
التعليقات (0)