آراء ثقافية

موسم المشمش القصير

حلاوة المشمش تظل في موسمه ومذاقه المنعش يذكرنا بأن فرصتنا في الحياة محدودة وأن خلفنا ثماراً أخرى تنتظر موسمها
حلاوة المشمش تظل في موسمه ومذاقه المنعش يذكرنا بأن فرصتنا في الحياة محدودة وأن خلفنا ثماراً أخرى تنتظر موسمها
أجندة الصيف المزدحمة بالمواعيد لا تعطي شجرة المشمش غير فسحة قصيرة كي تطرح ثمارها الصفراء الزاهية. موسم المشمش قصير، لكنه ضروري للإعلان عن دخول فصل الصيف.

العنب والتين والزيتون، وغيرها من ثمار الصيف، مذكورات في النص المقدس، وقدسيتها تفيض بها عن حدود الأزمنة والمواسم، وترتفع بها إلى دلالات الخلود والنعيم الأبدي، أما المشمش فقد انحصرت دلالته بقصر العمر، فصار رمزاً للجمال الزائل، وتبدل الأحوال.

هل يمكننا الحديث عن مظلومية المشمش الزمنية والدلالية؟ وهل مظلومية المشمش تستأهل الحديث في ظل مظلوميات لا حصر لها، وأكثر خطورة؟

الطبيعة نفسها، أم الثمار والخضار والحياة، غدت مظلومة في زمن الاحتباس الحراري. والإنسان نفسه فقد قيمته في زمن الرأسمالية المتوحشة، والديكتاتوريات المستبدة، والأوبئة المستجدة التي أذعرته وبعثرته وأرجعته إلى عصر الكهف يحتمي به من خطر لا يعرف كنهه.

والجمال، تلك القيمة السامية، أضحت مظلومة في زمن الاستهلاك وانحطاط الذائقة والشاشات المفتوحة على أردأ الصور والنصوص والأفلام، والمنصات الرقمية المشرعة المحتوى على كل ما هو كريه وبذيء وعنصري.

والعقل نفسه بات مظلوماً تحت وطأة اللامنطق والجهالة المستشرية في الخطاب العام السياسي والعلمي والديني.

ما علاقة المشمش بهذا الحديث المتشائم، والتصور الكئيب للحياة؟

لا نزعم أن العلاقة شرطية ولا سببية، بين مظلومية المشمش وسائر المظلوميات، ولكن ثمرة المشمش تتراءى في بواكير الصيف مطروحة على الأرض، وعلى الأرصفة وجنبات الطرق، وفي واجهات الدكاكين، وفي عربات الخضار المتجولة.

وقبل أن نشبع من النعمة تزول من أمامنا، كأن الطبيعة تبخل علينا بها لتذكرنا بأن كل نعيم زائل. والصحيح أن الطبيعة كريمة لكنّ الزمن بخيل، وموسم المشمش قصير.

خدّها الأصفر الزاهي، وخدها الأحمر الناري، وفلقتها الطرية التي تنفتق بسهولة عن نواة صلبة تذكرنا بمعجزة الأرحام الهشة في قدرتها على حمل الأثقال. وكلها توحي بحالة خاصة بين الثمار، حالة من الاضطرار إلى النضج المبكّر، حالة من الإبداع المستعجل إلى الاستواء والاكتمال السريعين.

شجرة المشمش تسابق الزمن، وهي في هذه الخصيصة تشبه الأنهار في موسم الفيضان؛ تريد أن تعطي كلّ ما في جعبتها مرة واحدة، لأنها بطبيعتها المعطاءة محكومة بطبيعة الزمن البخيلة.

وقد تنبّه الإنسان إلى كرم الأنهار، فوجد حلّا ناجعاً للفيضان، بينما ظلّت حياة المشمش القصيرة بلا علاج، إلا العلاجات الناقصة كالتجفيف والتبريد والعصير. ولأن حياة المشمش تشبه حياة الإنسان، فأي علاج كامل لمعضلة المشمش سيفتح باب الخلود له.

استخلص الشاعر الفلسطيني محمود درويش دلالة المشمش المعطاءة والفانية، وعبر عنها في سطر شعري مكثّف: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة: نهاية أيلول، سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها".

ما فعله درويش في هذه العبارة الشعرية أنه حرر المشمش من إسار الزمن، وفكك ارتباطه بالموسمية، بمعنى أنه أوجد علاجاً لمعضلة الحياة القصيرة للمشمش، لكنه علاج شعري لحسن الحظ. ولنا أن نتخيّل شجرة المشمش مثقلة الأغصان في الخريف والشتاء! والطبيعة مشغولة بها عن غيرها من نباتات الأرض، مثل أم تدلل ابناً من أبنائها وتهمل الآخرين.

ولم يكن درويش معنياً على الخصوص بديمومة المشمش على مدار السنة، وإنما أراد ديمومة الشباب والجمال للسيدة، وليس للسيدة فحسب، بل أراد إلى جانب ذلك، الديمومة لقيم الحرية والعدالة ومقاومة الظلم والانتصار للحياة التي يغتالها المحتل: "ساعة الشمس في السجن، غيم يقلّد سرباً من الكائنات، هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوف الطغاة من الأغنيات".

ماذا نفعل بفائض المشمش في محدودية الزمن، بالشجرة الوارفة الأغصان، الكثيفة الأوراق، الممتدة فروعها في كلّ اتجاه، المطروحة الثمار، والقريبة الثمار، والعالية الثمار، الناضجة كلّها التي تستصرخ القطاف؟

الجواب على هذا السؤال تقدم به شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم في قصيدة له بعنوان "في المشمش".

ذاعت قصيدة نجم لارتباطها بأغنية المقدمة والنهاية لمسلسل حمل اسم "أنا وأنت وبابا في المشمش"، ألّفه أسامة أنور عكاشة، وأخرجه محمد فاضل، ومثل أدوار البطولة فيه فردوس عبد الحميد (أدّت القصيدة غناءً بصوتها)، وحسن عابدين، ومحمود الجندي، وآخرون، وعرض في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

القصيدة ثمرة تلاقح إبداعي بين شاعر كبير، وكاتب سيناريو كبير، وثقافة شعبية مصرية تملك قدرة عبقرية على توليد الأمثال عميقة الدلالة:

"يا بتاع المشمش صدّقتك، لعبة ف حدّوتة ولا طُلْتك، ولا دُقْت المشمش".

تدور القصيدة حول فكرة الوعد الكاذب. سلسلة من الوعود تحقيقها "في المشمش". والمشمش زمنه القصير لا يمكّن صاحب الوعد من تنفيذ وعده. وبهذا الربط ينفي صاحب الوعد عن نفسه نيّة الخلف، ويعفي نفسه من المسؤولية عن خلفه، ويلصقه بالظروف الموسمية للمشمش.

تعدّ القصيدة نموذجية في اتكائها على المنطق التبريري، الذي يحيل خلف الوعد إلى ظروف خارجة عن إرادة صاحبه. ويكتشف الموعود مرة بعد أخرى الخلل في المنطق التبريري، ويعبر عن هذا المنطق المختل بعبارة "في المشمش".

عبارة "في المشمش" ليست وعداً، إنما هي ردّ على الوعد، وإعلان الموعود بأنه لا يصدق وعود صاحب الوعد.

ويقع صاحب المنطق "المشمشي" في شرّ منطقه: "على شوقك يا حليوة يا مشمش، ومسيرك يا بتاع المشمش، حتكلّم أبويا يمَشْمِشْلك".

تناولت قصيدة نجم مظلومية المشمش من زاوية أنثروبولوجية اجتماعية، وتناولتها أبيات درويش من زاوية شعرية جمالية محضة. لكنّ حلاوة المشمش تظل في موسمه، ومذاقه المنعش يذكرنا بأن فرصتنا في الحياة محدودة، وأن خلفنا ثماراً أخرى تنتظر موسمها.
1
التعليقات (1)
محمد سالم عبادة
الأحد، 06-06-2021 12:13 م
الله

خبر عاجل