تقارير

فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ.. بحث في الجذور

إسرائيل تستولي على أسماء الأماكن الفلسطينية بعد استعمارها للأرض- (عربي21)
إسرائيل تستولي على أسماء الأماكن الفلسطينية بعد استعمارها للأرض- (عربي21)

في مقدمة مؤلفي "فلسطين: من هنا بدأت الحضارة: من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري النحاسي" (ط 1- 2017)، ذكرت ما يلي: "ما دفعنا لكتابة هذا الكتاب، ما قاله العلامة كيث وايتلام، إن استعراضا لفهارس مكتبات الجامعات البريطانية الكبرى (COPAC) بحثا عن الكتب المختصة بشأن تاريخ فلسطين يكشف وجود (278) عنواناً، تنصب أكثريتها على معالجة الفترة الحديثة والنضال الفلسطيني في سبيل إقامة الدولة. عدد قليل فقط يتناول الماضي القديم. وقد ألف معظم هذه الأخيرة باحثون غربيون مهتمون بفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من منظور كتابي. 

غير أن بحثاً مماثلاً عن كتب بشأن تاريخ (إسرائيل) يتمخض عن (598) عنواناً، أي أكثر من الضعف. والعديد من هذه الكتب ينصب، بطبيعة الحال، على الفترة الحديثة المفضية إلى عام (1948) وما بعده. ومع ذلك إن عدداً لا يُستهان به تناول تاريخ بني إسرائيل (ancient israel, israelites)، وقد كتبها مختصون كتابيون وعلماء آثار. وثم فإن ما هو متاح لأي متاح لأي مهتم بـ(تاريخ فلسطين) أقل كثيراً مما هو متاح لمن يريد معرفة تاريخ (إسرائيل)".

في هذا السياق صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العربية من الكتاب الموسوعي "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ"، للمؤرخ والأكاديمي الفلسطيني نور مصالحة، ترجمة: د. فكتور سحاب، (ط 1- 2020). 
 
يقع هذا الكتاب الموسوعي في 480 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف الكتاب من تقديم الطبعة العربية، وعشرة فصول.

في مقدمته، "فلسطين: الاسم الشائع"، يقول مصالحة: "هذا الكتاب يتحدى المقاربة الاستعمارية لفلسطين، والخرافة الخبيثة أرض بلا شعب" (ص 17). ويشير إلى أن "اسم فلسطين هو الأكثر شيوعًا في الاستخدام، منذ العصر البرونزي المتأخر (منذ 1300 ق.م) حتى اليوم" (ص 18). ويثبت الكتاب "أن اسم فلسطين (بدلاً من اسم "كنعان") كان الأكثر شيوعًا بين العامة وعلى الصعيد الرسمي في التاريخ القديم، وفي طيف واسع من المصادر، بما فيها الأدلة المادية، والأسماء الجغرافية، والخرائط، والنقود التي سُكت (في فلسطين). والنصوص والنقوش الشهيرة، من المشرق والمنطقة المتوسطيّة الواسعة" (ص 35). وفي المقابل فالنصوص التوراتية، هي، "تقاليد مخترعة" (ص 46). فـ"العهد القديم ليس تاريخًا فعليًا، بل تصوّر خيالي، ولاهوت، وأدب مقدس" (ص 48).

 

يري المؤلف أن أسماء المواقع الفلسطينية اجتذبت "انتباه الأصوليين المسيحيين والإمبرياليين الأوروبيين في القرن التاسع عشر. وصارت مشاريع تسمية الأماكن الجغرافية، واستبدالها في فلسطين، أدوات قوية في أيدي القوى الأوروبية التي تنافست في اختراق أرض التوراة"

 



وعلى مدى ما يقارب المائتين صفحة من الكتاب (ص 77- 270)، يناقش مصالحة اسم فلسطين، ويشرح البدايات التاريخية والأصول القديمة لاسم "فِلَسطين"، ويؤكد على أن اسم "فِلَسطين"، هو، الأصل، وأن الفلسطينيين "لم يكونوا من غزاة مُغيرين من بحر إيجة، على جنوب المشرق، أو من "شعوب البحر" الذين ظهروا في فلسطين في زمن عصر البرونز، بل هم شعب أصلي من الشرق الأدنى" (ص 78). ويشير إلى أن اسم كنعان لا يشير إلى إثنية، فـ "الكنعانيون [في فلسطين] لم يكونوا يعرفون أنهم كنعانيون. لكن عندما "غادروا" وطنهم الأصلي، إذا صح التعبير... قالوا بأنهم كانوا كنعانيين" (ص 80).
  
هذه الحقيقة التاريخية تؤكد ما قاله سباتينو موسكاتي، من أن "تسمية "كنعان" لا تبعث على الرضا من نواح عدة، فإنّه يبدو من تمحيص المصادر أن لفظَي كنعان والكنعانيين كانا يعنيان قبل كلّ شيء فينيقيا والفينيقيين، ولم يُستعملا إلّا في عصر متأخّر للدلالة على مدلولَين أوسع نطاقاً؛ أحدهما جغرافي، والآخر جنسي". 

وما ذكره توماس طمسن في أعماله "أنَّ تعبير (كنعاني) أساء استعماله معظم العاملين في الأركيولوجيا ودراسات الشرق الأدنى القديم اليوم. وإن كلمة (كنعاني) تقوم بوظيفتها مصطلحاً ازدائياً بالإشارة ليس إلى الإثنية أو حتى إلى شعب منطقة ما، بل إلى الطبقة التجارية في المجتمع، على نحو يتماشى كثيراً مع التمييزات الاجتماعية كما هو موجود ضمناً في الإشارة العربية إلى البدو والفلاحين والمدنيين". (لمزيد من التفاصيل، يُراجع أحمد الدبش، الفلسطينيون في الأصل والفصل، جريدة الأخبار اللبنانية، 20 آب/ أغسطس 2019 ـ وأيضاً أحمد الدبش، كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب (2005). 

أما الفصل التاسع من الكتاب بعنوان "أن تكون فلسطين، أن تصبح فلسطين: إعادة اكتشاف فلسطين الحديثة وصورتها الجديدة وأثرها في الهوية الوطنية الفلسطينية"، فيتناول مصالحة صورة جديدة لفلسطين تشكلت عبر مساهمة الرحالة، والحجاج، والكتاب، وراسمي الخرائط ، والجغرافيين، والمستشرقين التوراتيين، والباحثين عن المغامرة، ونجحت (فترة من الزمن) في تحويل فلسطين، إلى أرض الكتاب المقدس. 

في ذلك يقول مصالحة: "إن تسميات "فلسطين" و"الأرض المقدسة/ تيرا سانتا/ بلد يسوع" كانت مترادفة لدى حركة الاستشراق الأوروبية والروسية في القرن التاسع عشر" (ص 273). و"ظل إنتاج كثير من المعرفة الأوروبية عن فلسطين، في كتب ويوميات أسفار، تسيطر عليه الدراسات التورتية، وجغرافيا الكتاب المقدس، والاستشراق الذي يصف الفلسطينيين العرب بأنهم "مجرد ملحق بـ [المشهد] التوراتي القديم".. و"ظلال" من ماض بعيد، "مُستَحجِرات" زمن متوقف، أما الفلاحون العرب، في فلسطين المعاصرة، فهم للـ"يهود التوراتيين"." (ص 279).
  
إن إعادة إنتاج/ تخيل صورة جديدة لفلسطين، أسهمت أكثر من أي شيء آخر في إهمال وتحقير الشعب الفلسطيني وثقافته!
 
في الفصل العاشر بعنوان "الاستعمار الاستيطاني وتجريد الفلسطينيين: استيلاء دولة إسرائيل على أسماء الأماكن الفلسطينية"، يقول مصالحة: "على نسق عمليات إعادة الاختراع الأوروبية للقوميات الإثنية ـ الرومانسية، ادعت الأركيولوجيا والجغرافيا الصهيونية العقائدية أنها "تملك" ميراثًا "قوميًا" خاصًا في فلسطين؛ لقد اخترعت "أرض إسرائيل" وعوملت على أساس أنها ملك خاص. وقد تكثفت هذه العملية الرامية إلى التحويل القومي ــ الإثني، وإعادة اختراع الماضي، بعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، كجزء من محاولة عامة لتحويل كل من اليهود والتوراة العبرية تحويلاً قوميًا ـ إثنيًا" (ص 354). 

يري المؤلف أن أسماء المواقع الفلسطينية اجتذبت "انتباه الأصوليين المسيحيين والإمبرياليين الأوروبيين في القرن التاسع عشر. وصارت مشاريع تسمية الأماكن الجغرافية، واستبدالها في فلسطين، أدوات قوية في أيدي القوى الأوروبية التي تنافست في اختراق أرض التوراة" (ص 356). لقد "أُقيم هذا المشروع القاتل للذاكرة، والماحي للأسماء الجغرافية، "مؤسسيًّا، ومعرفيًا، وانفعاليًا"، في إطار "الفقّاعة" اليهودية الإقصائية" (ص 359).  

وبحسب مصالحة، فقد "بدأ استبدال أسماء المواقع الفلسطينية، لإحلال أسماء توراتية وعبريّة الرنين، في أواخر العهد العثماني وزمن الانتداب، وأخذت القري الفلسطينية الصغيرة تختفي عن الخريطة، على الرغم من أن السكان المحليين ظلوا يستخدمون الأسماء الأصلية للمستعمرات الصهيونية الجديدة" (ص 363). 

ويكشف المؤلف عن عملية تحويل اسماء المستوطنين الصهاينة في فلسطين إلى الأسماء العبرية والتوراتية. كان تغيير الأسماء "يوفر للكثير من المستوطنين الصهاينة في فلسطين، نمطًا من المحاكاة، في عملية اختراع الذات وتحويل الذات إلى شعب محلي" (ص 379). ويعرض مصالحة قائمة تضم أسماء النخب الإسرائيلية السياسية، والعسكرية، والفكرية، التي اعتمدت اسماء توراتية. (ص 384- 392). ويشير إلى "الاستيلاء على الاسماء الجغرافية العربية، والتنكر وراءها. فكانت تُستبدل بالأسماء التاريخية العربية للمواقع الجغرافية، اسماء مستوحاة من التوراة أو التلمود، وتُنحت أسماء عبرية جديدة، كان بعضها يشبه من بعيد الأسماء التوراتية" (ص 379).
   
يمكننا القول إن نور مصالحة استطاع كتابة مقدمة قصيرة لتاريخ فلسطين، أجابت على السؤال الذي يطرح نفسه علينا، هل بمقدورنا (مؤرخين أم آثاريين أم باحثين) كتابة تاريخ فلسطين الحقيقي؟

 

*كاتِب وباحِث فلسطيني


التعليقات (0)