أفكَار

الجبهة الشعبية في تونس.. نهاية رجل شجاع (3 من 3)

تونس.. تراجع دور الجبهة الشعبية كتنظيم لكن اليسار لم ينته.. (الأناضول)
تونس.. تراجع دور الجبهة الشعبية كتنظيم لكن اليسار لم ينته.. (الأناضول)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..

ينهي اليوم الأستاذ الجامعي التونسي الدكتور أحمد القاسمي، في ورقة خاصة بـ "عربي21"، عرضه لتاريخ اليسار العربي، بتسليط الضوء حول مسار الجبهة الشعبية، التي نشأت في ظل ظروف استثنائية بعد ثورات الربيع العربي وسقوط نظام زين العابدين بن علي، وهذه هي الحلقة الأخيرة من ملف "عربي21" عن تجربة اليسار العربي.


ت ـ ثم يضربون في الأرض بعضهم لبعض عدو

أصبحت الجبهة الشعبية إذن في حكم الماضي والتاريخ. كانت نهايتها أشبه بنهاية أبي عبد الله محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس المسلمين على ربوة يودّع مملكة غرناطة وأمه توبخه قائلة، في مشهد اصطنعه الأسقف أنطونيو جيفارا "ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال". واختلفت المواقف منها فبقدر ما خلّفت من الإحباط في صفوف أنصارها بعثت السرور في قلوب خصومها. فهل انتهى اليسار وخرج من المشهد السياسي؟هل هي نهاية الرجل الشجاع؟

1 ـ نهاية الجبهة:
 
لم يكن الاصطفاف داخل الجبهة الشعبية والصراع بين أقطابها غير سببين مباشرين لاضمحلالها. فللأزمة أسباب بعيدة منها خاصّة البعد التنظيمي. فقد انتهج قادتها المركزيون أساسا في اتخاذ القرارات وهذا ما جعل تنسيقياتها الجهوية تشتكي باستمرار من تحجيم دورها. وسريعا ما تحوّلت هذه المركزية إلى نزعة للتفرد بالرأي غلبت على آداء ناطقها الرسمي حمّه الهمامي ونزعة للإقصاء والصدام،  خاصة بعد اغتيال شكري بلعيد الذي كان زعيما يحقق التوازن ويوحّد المتباعدين. 

فحمة الهمامي، حسب منتقديه، حاول أن يكون الشجرة التي تحجب الغابة غير عابئ بفصل الخريف وبأغصانه الرقيقة العارية من الأوراق. فالرجل كان عاجزا عن التجدّد أو الإفادة من مستجدات الفكر أسيرا لدغمائيته ولمواقفه المعادة بشكل رتيب. 

وحتى لا نختزل الأزمة الجبهة في شخص بعينه نعتقد أنّ تعاطي الجبهة مع الواقع التنظيمي لم يكن يخضع دائما لمعطيات الواقع وللتقييم الموضوعي بقدر ما كان محكوما بصراعات الماضي الطلابي زمانا، وهذا وجه من وجوه افتقار الجبهة للنضج الكافي. فالصراعات بين حزب العمال والوطد موروثة عن الصدام الذي ميّز فعاليات مؤتمر للاتحاد العام لطلبة تونس سنة 1989 عندما انسحب الوطنيون الديمقراطيون من المؤتمر واتهموا حزب العمال بالانقلاب على المنظمة. 

ونعتقد أن الجبهة ظلت وفية لتقاليد اليسار وأدبياته وهناته أيضا. فقد كانت تفتقر إلى خطة تنظيمية قادرة على التعبئة الشعبية كفيلة بأن تساعد على الوصول إلى السلطة. وبدل الانصهار في حزب يساري كبير ظلت أحزابها صغيرة تكافح من أجل الحفاظ على وحدتها التنظيمية.

للبعد التنظيمي بعد أعمق فقد كان الجبهويون يختلفون في تشخيصهم لطبيعة المجتمع ولطبيعة النظام ولطبيعة الثورة. واختلاف التشخيص يفضي إلى اختلاف في طبيعة التعاطي مع الوضعيات وفي تصور العلاج المناسب. فالوطد كان يميل إلى جبهة وطنية ديمقراطية فيما كان حزب العمال أقرب إلى تبني خيار حزب الطبقة العاملة أما هواجس القوميين فكانت وحدوية أساسا. ولما اختلفت المقاربات والأهداف اختلفت الوسائل والإجراءات أيضا. ولم يكن قادة الجبهة قادرين على الإقناع بأطروحاتهم دائما وافتقروا لرؤية واضحة موحّدة في التعاطي مع المتغير السياسي. 

لقد فاجأت الثورة التونسية الجميع. ولئن استطاعت بعض الأطياف الفكرية تدارك الموقف وتسويق خطاب منسجم إلى حدّ، فإنّ الجبهة ظلت ممزقة بين خيارين غير قادرة على الوعي بالفوارق بينهما ناهيك عن الحسم فيهما. هل تريد تغيير الواقع على الأرض؟ ومن يريد تغيير الواقع يسعى إلى السلطة، وهذه مهمة السياسي الذي يضبط الاستراتيجيات المجدية لإدراكها، أم هي تريد تغيير العقول ولفرض تصورها للحقيقة، وهذه مهمة المثقف الذي ينقد تصورات المجتمع للواقع ويصدم ويواجه ويزعج. وبين الخيارين بون شاسع. ولكن الفاعلين الجبهويين رابطوا في مفترق الطرق ولم يعرفوا أي وجهة يتجهون.

ومع ذلك فالتمعن في أدائهم يكشف أن الجبهوي كلما أراد ساحة السياسة دخلها من باب المثقف، الذي يتعامل مع نخبة تقبل المدى الواسع من الاختلاف. فلم يكن يسعى إلى الخطاب الناجع الذي يحشد الجماهير بقدر ما كان يعمل على صدم المتقبل في عرض مسرحي أو سينمائي على الطريقة البراشتية. هل يدعونا الإنصاف إلى أن نقرّ بأنه بحث عن النجاعه في مراحل من حملاته الانتخابية. نعم. ولكن ذلك تمّ بطريقة فلكلورية منفّرة، كأن يزجّ ببعض المحجبات في قائماته أو في اجتماعاته. فيحول العمل النضالي إلى نشاط تسويقي مفضوح.

2 ـ تراجع اليسار في تونس الاستراتيجيات القاتلة

وجد اليسار، خاصة منذ بروز الاتجاه الإسلامي واتخاذه للمساجد ساحة للتعبئة، في الاتحاد العام التونسي للشغل فضاء للتأثير موازيا. وبدت النتائج الأولى مغرية ولكن مع الوقت اتضح أن هذه الإستراتيجية قاتلة بالفعل. ففرض التصور الماركسي للعمل النقابي ومارسه بخلفيات سياسية ولم يقصره على المطالب المهنية. وانصرافه إلى النضال العمالي طبيعي جدا ولكنه شكا من نقيصتين:
 
ـ لم يكن واعيا بأنّ الساحة العمالية تفتقر إلى الصناعات الكبرى التي يمكن أن تنفذ فيها إضرابات مؤثرة في توجهات مالكي وسائل الإنتاج، خاصة في ظل العولمة التي جعلت المستثمر خفيفا أخفّ من الملائكة بإمكانه إذا ما اصطدم بعوائق هنا أن ينتقل في زمن وجيز إلى دولة أخرى توفر له الفضاء المناسب والتسهيلات التي يريد وفي ظلّ اقتصاد الخدمات المستند إلى وظائف هشة. فافتقد للقدرة على ابتكار الأساليب النضالية التي تحافظ على توازنات المؤسسات المشغلة وتحفظ حقوق العمال في آن. وتقتضي الأمانة أن نعترف بأنّ المهمة على قدر من العسر أعجزت المنظمات النقابية في مختلف أنحاء العالم.

ـ ظلت الرأسمالية المتوحشة تكتسح الميدان، للظروف التي ذكرنا. وظل هذا اليسار يعتمد أساليبه الاحتجاجية التقليدية، عاجزا عن توظيف قاطرة الاتحاد العام التونسي للشغل لتعديل مسار الاقتصاد التونسي وتغيير توجهاته الكبرى كعزوفه عن الاستثمار في المناطق الداخلية وعجز الدولة على مواجهة الاقتصاد الموازي أو (تواطؤها معه) وعجزها عن فرض عدالة جبائية تضمن المساواة بين جميع المواطنين وتجلب موارد إضافية للدولة.

لقد اكتسح الإسلام السياسي الساحة من خلال توظيف المساجد وعمل على اختطاف إرادة الرأي العام بخطاب عاطفي يستفيد من مظلوميته ويقدّم نفسه مهديا منتظرا جاء ليصلح ما استشرى من الفساد. واستفاد استفادة بالغة من كعب اليسار الفاني (بيّن هنا أننا نستعير عبارة "كعب آخيل" من الأسطورة الإغريقية، نقصد ذلك الجزء الذي لم يبلل بماء الخلود فتحوّل إلى نقطة ضعف أدت إلى إصابته وهزيمته وهزيمة الإغريق في حربهم على طروادة في ملحمة الإلياذة) وكعبه هنا هو صراع الهوية. فجرّه إليها واندفع اليساريون اندفاع ثور إسباني لحركة الراية الحمراء. وانخرطوا في صراعات هامشية، مقارنة بهدفهم الرئيسي وهو تحقيق العدالة الاجتماعية. 

وفي إطار لعبة كسر العظام مع النهضة وردا على توظيف المساجد، عمل اليسار عبر الاتحاد العام التونسي للشغل على اختطاف إرادة الدولة بتنفيذ إضرابات موجهة في قطاعات حيوية كالنقل والصحة والجباية. ولكن السحر كان أقوى من مهارة الساحر. فتحول العمل النقابي إلى مطالب فئوية، تحاول فيه كل فئة أن تحقق المكاسب ولا تأبه إلى الإصلاحات الحقيقية التي تحقق العدالة والرفاه للشعب كلّه وأضحت ميادين العمل ساحات للصراع بين نقابات متباغضة. ففي المؤسسة نفسها تتصادم نقابة الإداريين ونقابة العملة ونقابة المدرسين... ووقفت قيادات الاتحاد، المرتهنة إلى أصوات النقابات الجهوية والأساسية لمواصلة الحصول على المناصب والامتيازات، عاجزة على التعاطي مع رهط جديد من النقابيين ظهروا كالفطر بعد الثورة. وكثيرا ما غدت النقابات ملاذا للمتكاسلين والخارجين عن القانون وللانتهازيين الباحثين عن صفة النقابي لتحقيق مكاسب صغيرة. فأُضعفت الإدارة وساد التسيب. واتضح أنّ تلك الاستراتيجيات كانت قاتلة فعلا، مما أسهم في  الإضرار بصورة اليساري المناضل الحالم بالعدالة الاجتماعية وجعل الجبهة تؤخذ بجريرة هذا الرهط من النقابيين . وفقدت الكثير من رأسمالها الرمزي بسببه.

3 ـ معضلات أمام الجبهة الشعبية

ليست تونس برزخا منفصلا عن العالم ومجريات أحداثه ونزعات فكره. فمن العوامل التي عجّلت بنهاية الجبهة وجعلته يترنّح انحسار المد اليساري في العالم عامة وفي العالم العربي خاصّة. وكانت الجبهة إحدى ضحاياه. فبعد طفرة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وبعد ثورة 68 في فرنسا والمدّ الكبير في أمريكا للاتينية في موجته الأولى التي تميزت بثورات تشي غيفارة وصمود كاسترو وإصرار سيلفادور اللندي على تحدي النظام الرأسمالي، سقط المعسكر الشرقي.

فانهار الاتحاد السوفييتي وتفككت دول أوروبا الشرقية وانهزم نجيب الله في أفغانستان وتحولت الأحلام الكبيرة إلى البحث عن الخلاص الفردي في نظام عالمي جديد يختزل القيم جميعا في اليورو والدولار وسادت النظريات الفاشية التي عبر عنها التبشير بـ"ـنهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما وبـ"ـصراع الحضارات" لصموئيل هنتنغتون ونزع الناخب الغربي بجلاء إلى أحزاب اليمين التي تميل إلى الليبرالية المتوحشة. 

وانتهت الموجة الثانية التي دفعت باليسار إلى رأس السلطة في أمريكا اللاتينية هذه الأيام بمتاعب شتى أضحت تهدد بلدانها بالمجاعات، من متاعب نيكولاس مادورو في فنزويلا إلى متاعب فائيل كوريا في الإكوادور وإلى متاعب إيفو موراليس في بوليفيا إلى متاعب أنيسي ودي سيلفا في البرازيل التي أوصلته إلى السجن. وتوارى اليسار في البلدان الإسلامية وتهاوى أمام صعود الإسلام السياسي بتأثير من الثورة الإيرانية وانتصار "المجاهدين" في أفغانستان. وفسح المجال إلى أحزاب ترفع شعار الهوية الدينية في تركيا وفي فلسطين وفي مصر ما بعد الثورة وقبل الانقلاب وفي تونس وفي المغرب وفي كل البلدان التي تجرى فيها انتخابات حرة ديمقراطية. وضاع اليساريون في الزحام، ولكن هل كان كلّهم يساريين فعلا.

 

انهار الاتحاد السوفييتي وتفككت دول أوروبا الشرقية وانهزم نجيب الله في أفغانستان وتحولت الأحلام الكبيرة إلى البحث عن الخلاص الفردي في نظام عالمي جديد يختزل القيم جميعا في اليورو والدولار وسادت النظريات الفاشية التي عبر عنها التبشير بـ"ـنهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما وبـ"ـصراع الحضارات" لصموئيل هنتنغتون ونزع الناخب الغربي بجلاء إلى أحزاب اليمين التي تميل إلى الليبرالية المتوحشة.

 



عرضنا في ما سبق أنّ اليسار في تونس يظهر بوجهين، يسار نخبوي، يشار إليه أحيانا باليسار البرجوازي وآخر راديكالي. ولا نعتقد أنّ هذا التصنيف اعتباطي. بل نقدّر أنه نتيجة لوعي، إلى حدّ، بوجه آخر من أزمة اليسار في تونس وفي العالم العربي الإسلامي عامة قليلا ما ننتبه إليها. فالعديد ممن يحسبون على اليسار في العالم الإسلامي أو يعلنون انتسابهم إليه لا يرون في الشيوعية على اختلاف اتجاهاتها سوى موقفها النقدي من التدين، متجاهلين أنها أقرب إلى علم الاجتماع والتاريخ وأنها نظرية في الاقتصاد السياسي تنتصر إلى الكادحين لتحررهم من هيمنة مالكي وسائل الإنتاج. وهم لا يقصرون فهمهم للشيوعية على هذا الأساس إلا لكونهم يميلون إلى جعل الذات الإنسانيَّة ومشاكل الوجود البشريّ جوهر تفكيرهم بما فيه من قضايا الحيَاة، والموت، والقلق والخوف، واليأس وانتصارهم لمبدأ الحريَة المطلقة في بناء شخصيَة الإنسان الحرة الواعيَة. وهي نزعات فكرية وجودية أساسا، لا تلتقي مع اليسار إلا في جوانب قليلة منها اعتبار التصورات الدينية عائقا يحد من الحرية التي تمثل عقيدتهم الأولى. 

ومن البديهيات أنّ لكل من الشيوعية والوجودية معركتها الفكرية الخاصة. ولكن كثيرا ما يتماهى الخطان في العالم العربي والإسلامي المتحفّز لكل ما له صلة بالظّاهرة الدينية ويُختزلان في الموقف النقدي منها فيصنفان ضمن انتماء واحد بالنتيجة. ومن هنا وجه الإرباك و"الخطإ في التصنيف". 

ولعلّ استدعاءنا لمسار سارتر أن يكون مثالا مضخّما يسمح لنا بفهم أفضل للظواهر المصغّرة عندنا. فقد جمع الفيلسوف الفرنسي بين اعتناق الأفكار الشيوعية والإيمان بالحرية أوّل أمره. وعندما اصطدم المعتنقان في انتفاضة بودابيست سنة 1956 انتصر إلى انتمائه الوجودي واستقال من الحزب الشيوعي الفرنسي. وعند الاصطدام الثاني بين المعتنقين في تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 كان رده عنيفا ونقده للشيوعية شديدا واتسمت رؤيته لمستقبل الجنس البشري بمسحة من التشاؤم، من منطلق وجودي ملحد وتباينت مع ما يسم الماركسية من التفاؤل المسطح والرومنسية الحالمة. 

ينتهي بنا تملي الساحة الفكرية والسياسية التونسية، في ضوء مثالنا المذكور، إلى قناعة مدارها على أنّ الكثير من المحسوبين على اليسار هم منتصرون لمبدإ الحرية حشروا ضمن اليسار خطأ لاعتقادهم أنّه يوفر لهم هذا الهامش من الحرية في مجتمع محافظ. ولذلك تكون نضالاتهم نشازا، مقارنة بالأدبيات اليسارية، وتنخرط في سياقات اجتماعية بعيدة عن مشاغل الكادحين الحالمين بالتحرر من العبودية الطبقية. 

ولعلّ هذا المعطى أن يفسر الحديث عن اليسار البرجوازي ويخلّص هذا الاصطلاح من العبثية الظاهرة. فهذا الخيط الرفيع جعل [اليسار] نخبويا أحيانا يطرح قضايا المترفين، ممن لا يلهيهم عنها الكد وراء تأمين الخبز اليومي، كحق التونسية المسلمة في الزواج من غير المسلم والحرية الجنسية وحق المثلي الجنس في الزواج المدني.. وهي قضايا على صلة بالحريات بلا شك. وقيم الحرية واحدة ولكن التساؤل يطرح حول مدى أولويتها للكادحين والجياع والمضطهدين الذين يتصيّد اليساري أصواتهم.

إذن انتهت الجبهة فهل انتهى اليسار في تونس فعلا؟ لقد دخل"الرفاق" مرحلة "السبات" ولكنّ أخبارا هنا وهناك تؤكد أنهم لن يطيلوا النوم، وأنّ طاقاتهم المتحفزة للعراك ستجعلهم ينهضون سريعا للتباري في الشارع في هذا الجو القائظ بعنوان جديد لن يكون الجبهة الشعبية على كل حال. وسيضربون في الأرض بعضهم لبعض عدو. وستنهال بعض تسديداتهم على جدار الشيخ.. وسيعملون بقصد على إفساد قيلولته وحتى لا ينعم بأحلامه.. وسيخرج هو معربدا مهدّدا الفتية المشاغبين الذين يدفعون بالبلاد إلى أتون المحرقة في مشهد قديم مستعاد من العرض السياسي التونسي الهزلي.

 

إقرأ أيضا: "الجبهة الشعبية" في تونس.. نهاية رجل شجاع (1 من 3)

 

إقرأ أيضا: الجبهة الشعبية في تونس.. نهاية رجل شجاع (2 من 3)

 

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم