كتب

قراءة تاريخية هادئة في "جذور الخوف بين الإسلام والغرب"

قراءة تاريخية هادئة في أسباب الشرخ القائم بين الإسلام والغرب.. (عربي21)
قراءة تاريخية هادئة في أسباب الشرخ القائم بين الإسلام والغرب.. (عربي21)

الكتاب: جذور الخوف بين الإسلام والغرب
المؤلف: غفران حسايني
النّاشر: ورقة للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى: 2018
عدد الصفحات: 211

أبانت خطابات الكراهية والعنصرية التي تبثّها باستمرار بعض المنابر الإعلاميّة في الغرب ضدّ المسلمين وطقوس تديّنهم، وكذا تواصل مسيرات التنديد المقابلة التي شهدتها عديد العواصم العربية والإسلاميّة ضدّ ما أسمتها بـ"موجة صليبيّة غربيّة جديدة" ضدّ المسلمين وعقائدهم، على ما أسماه إدوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق" (ORIENTATION)، بـالشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والثقافة الشرقية عموما والشرق أوسطية خاصة. وقد ساهمت حدّة خطابات العنف المتبادل على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي أعقب تورّط شبّان مسلمين متشدّدين في جرائم قتل بكلّ من فرنسا والنمسا، في تغذية هذا الشرخ الحضاري المتواصل.

عدم حصر إدوارد سعيد لهذا الشرخ القائم بين الغرب والشرق عند مستواه النفسي وربطه له بالاستعمار والامبريالية والسلطة والثقافة والمقاومة في كتبه اللاحقة عن "القضيّة الفلسطينيّة" (1979) و"تغطية الإسلام" (1981) واستمرار أقلام ومنابر إعلاميّة غربيّة عِدّة في وفائها للخطاب الاستشراقي الاستعلائي "نحو محو الهويّة وتدمير الإنسان تحت نزعة مركزية استعلائية"، وفق تعبير الباحث أحمد شحيمط في ورقته " نقد الخطاب الاستشراقي وجدلية الشرق والغرب ، إدوارد سعيد أنموذجا"، فضلا عن تناقضات الغرب المفضوحة، علمانية فرنسا اليعقوبية على وجه الخصوص، تجاه قضايا الحريات الفردية والجماعية والموقف من قضايا معاصرة كالصهيونية ومحنة فلسطين والعراق، في مقابل تواصل غربة الفكر الإسلامي وانطوائه وعجزه عن ملامسة قضايا العصر بعيدا عن فوبيا الاستشراق والتبشير المسيحي، يجعل من الأهميّة بمكان الحفر عميقا في جذور تواصل الخوف بين الإسلام والغرب.

في هذا الصدد يتنزّل كتاب "جذور الخوف بين الإسلام والغرب" لمؤلفه غفران حسايني، الباحث في الدكتوراه في كلية الآداب والفنون والإنسانيّات بجامعة منوبة التونسية، والحاصل على الماجستير في اللغة والآداب والحضارة العربيّة عن بحث بعنوان "قضايا العصر في الفكر الإسلامي من خلال مجلّة مجمّع الفقه الإسلامي الدّولي"، الذي يبحث في أسئلة الخوف المتبادلة بين العالمين الإسلامي والغربي ويحفر عميقا في طبيعة العلاقة الجدلية بين الفكر الإسلامي ونظيره الغربي، القائمة على تراكمات تاريخية ودينيّة وعلى خطوط تماس جغرافي وإيديولوجي معقّدة لا تزال حاضرة بقوّة في الزمن المعاصر.

تتباين مواقف النخب المسلمة في قراءتها لطبيعة العلاقة الراهنة بين ديار الإسلام وديار الغرب المسيحي حدّ التناقض. ففيما يرى بعضها في علاقة الجانبين ملتقى للتثاقف الحضاري (interculturality) أو "فضاء الحركة أو الآلة التي تُصنع فيها الحضارات"، على حد تعبير بول فاليري، وهو ما يجعل من هذا الموقف تساوقا مع أطروحة التثاقف التي يطرحها فكر ما بعد حداثي، المناقض لمفاهيم الهيمنة الثقافية والأنثروبولوجيا الاستعمارية فإنّ البعض الآخر لا يزال يراها علاقة تصادميّة على نحو قراءة صمويل هنتغتون في كتابه "صدام الحضارات أو حدود الإسلام الدّمويّة". بيد أنّ غفران حسايني اجتهد في جعل كتابه منجزا نقديّا في قراءة الخطاب الإسلامي المعاصر من بوّابة إصدارات المجامع الفقهية الإسلامية الدّولية، لا من شبّاك القراءات الحديّة المذكورة أعلاه.

ويبحث حسايني في خلفيات "الخوف شبه مرضي من الآخر الغربي المتربّص عند حدودنا الجغرافية والفكرية والثقافية والذي بات يمتلك القدرة على صناعة المعنى حتى داخل ديار الإسلام. محاولة قد تكون مقدّمة لتفكيك مسارنا الفكري الراهن المتصف بالارتباك الذي استوطنه الخوف والرفض والعنف، على حدّ تعبير علي حرب.

بناء الكتاب

ينفتح الكتاب على أبواب ثلاثة: الباب الأوّل بعنوان "هيمنة الفكر بين عالميّة الإسلام وعولمة الغرب" ويبحث في المصطلحات والمفاهيم والسياقات الثقافيّة من الحضارتين الإسلاميّة والغربيّة. حضارتان ذات توجّه عالمي على كلّ المستويات الدّينيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة. كما عمد الكاتب إلى "مساءلة الفهم الإسلامي لموضوع هيمنة الفكر وإحداث مقاربة نظريّة تقوم على المقارنة بين عالميّة رسالة الإسلام عقائديّا وفكريّا وثقافيّا وعولمة الحضارة الغربيّة التي يتهمها المسلمون باعتماد الهيمنة أداة جديدة لفرض فكرها وثقافتها على بقيّة الشّعوب".

الباب الثاني بعنوان "جذور الخوف وتدشين الهيمنة ويتضمّن بحثا في أسباب الخوف التي رسمت معالم العلاقة بين الإسلام والغرب في أبعادها الدّينيّة والتّاريخيّة والرّمزيّة والمتخيّلة التي تعتبر من عوائق الالتقاء بين الحضارتين. وذلك من خلال "دراسة ما اعتبر تراكما تاريخيّا عنيفا وتفاعلات رمزية متشابكة ساهمت في إحداث صدمات حضاريّة كبرى ألهبت صورة الآخر الإسلامي لدى الغرب وشوّهت بدورها صورة الغرب في الفكر الإسلامي"، فضلا عن تتبع مسألة نشوء "فكرة الهيمنة الحضاريّة على العالم الإسلامي وما ترتب عن ذلك من موقف إسلامي متصلّب ضدّ كلّ أشكال الاحتكاك الفكري والاقتباس الثقافي من الغرب".
  
ويغوص الباب الثالث المعنون بـ"قلق في العقل الإسلامي: من التبشير إلى العلمنة" تحليلا ونقدا للموقف الإسلامي الرسمي من ثلاثيّة "التبشير والاستشراق والعلمانيّة" التي يراها المحددات الأولى لموقف المسلمين من الحضارة الغربية المعاصرة. وقد تمّ الاشتغال في هذا المستوى من الكتاب على مقاربة "تنزع إلى تحليل الأسباب والأهداف الكامنة وراء تلك المشاريع الفكريّة التي مثّلت لدى جمهرة من العلماء والفقهاء والباحثين شكلا من أشكال الهيمنة والتهديد الحضاري وأحد عوامل قلب نظم المعرفة والتفكير في العالم الإسلامي".

بين حميّة الانتماء واشتراطات الصرامة العلميّة

لم يخف حسايني على قارئ كتاب "جذور الخوف بين الإسلام والغرب" العقبات المعرفيّة والمنهجيّة والأكاديميّة التي قد تعترض باحثا مثله في موضوع الهيمنة التي تتعرّض له حضارته دون المساس بالصرامة العلميّة المطلوبة.

 

يروم كاتب "جذور الخوف بين الإسلام والغرب" معالجة المفاهيم وفق ما أسماها بالمقاربات المتعددة دون الانطلاق من مسلّمات معرفية تركن بالبحث إلى اليقين الفكري العاجز عن طرح السؤال والبحث له عن إجابات كافية، من خلال تتبّعه لمسار فكري متوتر في علاقة الحضارة الإسلاميّة بالحضارة الغربيّة واستتباعات ذلك.

 



ويقف القارئ على اجتهاد الكاتب غفران حسايني في التزام الحياد ومحاولة فهم أسباب التنافر الفكري وتفكيكها بين مطارحات ثقافيّة وفكريّة للغرب التي أطلّت على العالم الإسلامي في مراحل ركوده وتقوقعه على نفسه و"توجّسه خيفة من الفكر الوافد". ويبرز هذا الاجتهاد جليّا من خلال تجميع الكاتب للمادّة العلميّة في إطار أكاديمي له حبكته المنهجيّة وأهدافه المعرفيّة. ذلك أنّ مادّة مجمّع الفقه الإسلامي الدّولي لم تكن ممنهجة ومبوّبة ، بل "كانت في شكل محاضرات متداخلة ومبثوثة في عشرات المجلّدات الضّخمة التي تختلف في جوانب الاهتمام وطريقة الطرح لموضوع هيمنة الفكر كأحد أوجه العلاقات الدولية المعاصرة وتداعياته الراهنة".

فتح أفق جديد لنقد الفكر الإسلامي المعاصر

يروم كاتب "جذور الخوف بين الإسلام والغرب" معالجة المفاهيم وفق ما أسماها بالمقاربات المتعددة دون الانطلاق من مسلّمات معرفية تركن بالبحث إلى اليقين الفكري العاجز عن طرح السؤال والبحث له عن إجابات كافية، من خلال تتبّعه لمسار فكري متوتر في علاقة الحضارة الإسلاميّة بالحضارة الغربيّة واستتباعات ذلك.

كما يتوق الكاتب إلى فتح أفق جديد للدرس والتفاعل والتحليل والنقد للفكر الإسلامي المعاصر في ما يصدره مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدّة وبقيّة المجامع الإسلامية الأخرى من دراسات وقرارات لها سلطتها المعنوية والمعرفيّة على جموع كبيرة من المسلمين، بما يجعل من مواقفهم شديدة الأثر على الواقع الإسلامي العام التي قد تكون أعمق بكثير من عشرات الدّراسات الأخرى الجامعيّة والأكاديميّة التي تتفاعل معها النخب المثقفة والباحثون دون غيرهم، وفق تأكيد حسايني. ليخلص إلى كشف ما أسماه بالغطاء عن "التيارات الفكرية التي تحمل في الخطاب الإسلامي المعاصر لبسا وشبهة أكبر من مجرّد اعتبارها التقاء فكريّا على أرضيّة المشترك الكوني بين الأمم والحضارات".

مساعي الغرب في تهجين الشرق

اشتغل حسايني، على وجه الخصوص في الباب الثالث للكتاب، على تحليل الأسباب التي تقف وراء تلك الشواهد الحضاريّة التي رآها الخطاب الإسلامي المعاصر تعبيرا عن "مساعي الغرب في تهجين الشرق" وإعادة تشكيله على مقياس آخر ملائم للنظام العالمي الجديد الذي تسوده المركزيّة الغربيّة الحديثة ممتلكة كلّ أسباب القوّة المادّية والمعنويّة التي تشرّع تمدّد مدنيّتها واعتبارها النموذج الفكري والثقافي الأمثل للعالم المعاصر وميزان التقدّم أو التخلّف لكلّ الثقافات العالميّة الأخرى.

ويلقي حسايني باللاّئمة على الثقافة الغربيّة في تعميق ما أسماه بحجم اغتراب الذّات العربيّة عن واقعها وعن وعيها التاريخي أمام وافدها الحضاري والفكري الذي لم يترك مكانا إلاّ واقتحمه ليعطي البديل بإزاحة الثقافة الأصليّة واستبعادها ممّا ساهم في إحداث "ارتجاجات معرفيّة وثقافيّة وقيميّة" في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، في ظلّ غياب القراءات الاستشرافيّة والحلول العمليّة الحقيقيّة التي تحدث التوازن بين الأنا والآخر أمام ما أسماه بـ"افتتان الغرب بفكرة السيطرة والتوسّع وعدم قدرته على تقبّل اختلاف الآخر عنه". وهو ما يشير إليه صادق جلال العظم في ورقته البحثيّة "إشكاليّة العلاقة الثقافة مع الغرب" بأن الغرب لم يعد قادرا على تقبّل اختلاف الآخر ولا حتّى فهمه، ولو كان ذلك من خلال مقولاته الخاصّة به هو.

وتجسّدت هيمنة الفكر والعولمة الغربيّة من خلال استغلال الغرب وقواه الكبرى لوسائل القوّة والتنفّذ لبسط هيمنته وسيطرته على كثير من مجالات الحياة الإنسانيّة بالاعتماد على "مؤثرات الحضارة الغربيّة بفكرها وفلسفتها وعلومها ممّا ساهم في انهيار التوازنات الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة العميقة التي تستند إليها المجتمعات". 

وتتداخل مفاهيم الهيمنة الفكريّة ومظاهرها بالحضارة الغربيّة خاصّة مع تعاظم نفوذها العسكري والاقتصادي والثقافي في العالم، إلى الحدّ الذي أضحت فيه المركزيّة لصيقة بالانتشار الثقافي في كلّ أصقاع العالم للهيمنة على العقول والنفوس "بنزعة استعلائيّة عن سائر الحضارات الأخرى التي أخرجت من دائرة التحضّر" وصُنّفت كشتات حضاري يعاني الصّراعات التاريخيّة والإيديولوجيّة المفعمة بالتوحّش والعنف الذي يمثّل تهديدا حقيقيّا للحداثة والدّيمقراطيّة الغربيّة وفق ما سطّرته نظريّات "صدام الحضارات ونهاية التاريخ" لصامويل هنتنغتن.

الخطاب الإسلامي وفوبيا الاستشراق

لا تزال نظرة الخطاب الإسلامي إلى الدّراسات الاستشراقيّة التي شهدها العالم العربي والإسلامي تشوبها الرّيبة والشك. فقد خلص غفران حسايني إلى أنّ البحوث المقدّمة والقرارات الصّادرة عن مجمّع الفقه الإسلامي الدّولي تعتبر الاستشراق أحد وجوه الاستعمار والغزو الفكري الذي أدّى تأثيره، بحسب ما ورد في ندوة بشأن العلمانيّة نشرتها مجلّة مجمّع الفقه الإسلامي، إلى "تفكك الأمّة الإسلاميّة والتشكيك في العقيدة الصحيحة وتشويه تاريخها وإيهام الأجيال المتعاقبة بأنّ هناك تناقضا بين العقل والنصوص الشرعية، للعمل على إحلال النظم الوضعيّة محلّ الّشريعة".

ويخلص حسايني إلى أنّ تعامل الفكر الإسلامي المعاصر كان في مجمله قائما على مسلّمة تاريخيّة تعتبر الاستشراق "تيّارا فكريّا نشأ بدعم من المجامع الكنسيّة في أوروبا ليكون ذراعا أكاديميّة لعمليّات التبشير وتنفيذ مخطّطات مشبوهة في العالم الإسلامي، كأحد أوجه الصّراع الدّيني الذي يهيمن على تفاصيل العلاقة بين الإسلام والغرب منذ انتهاء الحروب الصّليبية وما عقبها من مرحلة استعماريّة".

وقد تدعّم هذا الرّهاب أو فوبيا الاستشراق نتيجة ما أسماه أحمد عبد الرّحيم السايح، في بحث بعنوان "الغزو الفكري في التصوّر الإسلامي" وصادر عن مجلّة مجمّع الفقه الإسلامي، بعجز المسلمين عن الإنتاج الفعلي لمواد ثقافيّة وعلميّة تمكّنهم من دراسة تاريخهم وموروثهم بأنفسهم ومجابهة إنتاج المستشرقين. ويدعّم إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" هذه الفوبيا من خلال إقراره بـ"أنّ حضور العلماء والباحثين والمبشّرين والتجّار والجنود الغربيين إلى الشّرق كان لدافع عميق هو التفكير في الشرق وأمر الشرق دونما وجود أيّ مقاومة تذكر من جانب الشرق نفسه".

ويشير حسايني إلى أن هذه الفوبيا من الاستشراق هي التي أنشأت فكرة إسلاميّة خطيرة في علاقة الإسلام بالفكر الغربي حين اعتبرت دراسات مجمّع الفقه الإسلامي الدّولي أنّ المستشرقين كان لهم هدف عميق وهو إلغاء النسق الفكري الأوروبي ومقاييسه في التعامل مع النّصوص الإسلاميّة ثم محاكمة الفكر والمجتمع الإسلامي على أساس ما وضعه المستشرقون من معايير علميّة تسيّد الحضارة الغربيّة على العالم في سعيها الدّؤوب إلى التمدّد الثقافي وتقديم نفسها بديلا كلّيا وشموليّا متجانسا لكلّ ثقافات العالم والحضارات الأخرى بما فيها الحضارة الإسلامية.

ويرى حسايني أنّ العقل الإسلامي الرّاهن ظلّ سجين الخوف من الاستشراق الذي تكمن قوّته في "قدرته على إنتاج المعرفة انطلاقا من مصادرها الإسلامية ثم إعادة بنائها النظري بكلّ ما فيها من إطلاقات وأحكام وخلفيّات إيديولوجيّة نابعة ممّا يسمّيه إدوارد سعيد بـ"الشعور المستمر بالمواجهة الذي خامر أذهان المستشرقين وهم يتعاملون مع الشرق".

التعليقات (1)
منصف سلايمي
الخميس، 05-11-2020 03:10 م
على العلم أن يعود لفطرته. وأخذ الواقع الذي لا يمتّ للعلم بصلة بعين الاعتبار. البحوث في مجملها تنطلق من صورة يرسّخا الإعلام في معناه العامّ عن الواقع وليس من الواقع ذاته.