مدونات

"وستبقى ثائرة".. رحلة إلى جهنم (2)

سيلين ساري
سيلين ساري
بغضب واضح، سحبت "لي لي" يدها من يد أدهم وأخبرته بصوت عال يسمعه الجميع: أستطيع أن أصعد وحدي، مما جعل الجميع ينظرون بترقب ردة فعل أدهم. ابتسم أدهم وانحنى بطريقة مسرحية مازحا: سمعا وطاعة يا أميرة؛ فضحك الجميع، مما أشعل غضبها، لكنها أعطتهم ظهرها وكأنها على اليخت وحدها.

اتجه الجميع إلى غرفهم كي يرتبوا ملابسهم ويستعدوا للإفطار مع بداية انطلاق الرحلة. كانت مع "لي لي" فتاتان لم تتوقفا عن الثرثرة، منبهرتين بفخامة اليخت وروعته، ثم بدأتا الحديث عن أدهم وعن جاذبيته وأخذتا بالنظر إلى "لي لي"، قالت إحداهما بابتسامة صفراء: أرجو ألا تغضب الأميرة.

فنظرت إليهما "لي لي" وهي ترفع حاجبها باستغراب وشبح ابتسامة يعلو ثغرها: كوني على راحتك، الأمر لا يعنيني. وخرجت من الغرفة متجهة لسطح اليخت وهي تردد: متى ينتهي هذا الكابوس؟

جلست على أحد الكراسي لتفرد قدميها وتستمتع بالشمس، فهي لم تعد تذكر متى آخر مرة أخذت عطلة، أغمضت عينيها بقوة كي تطرد محاولة التذكر فهذا ممنوع، فمنذ أن وطأت قدامها اليونان منذ عامين قررت أنها شخص لا ماضي له.

كان أدهم يقف ينظر لها من بعيد، فتلك المخلوقة المتناقضة تخرجه دائما عن شعوره. كم مرة عنّف نفسه بسبب إجباره لها على الحضور باستخدام نفوذه كربّ عمل، وحتى اليوم عندما رآها وجد نظرات الإعجاب تحيطها، تصرف بطفولية وكأنه يقول للجميع هي لي، شكلها وهي تغمض عينيها بقوة من أشعة الشمس جعله يذهب إليها.

فجأة شعرت "لي لي" بظل أحدهم عليها فتحت عينها بهدوء، وهي تعرف أنه أدهم لتجده واقف أمامها ممسكا بنظارة شمسية ويمد يده بها ويأمرها قائلا: ضعيها على عينيكِ، وجدتك تغمضين عينك بقوة، يبدو أنك لا تتحملين ضوء الشمس.

أخفضت رأسها لتمسك بحقيبتها تخرج منها نظارة شمسية وتضعها على عينيها وتقول بصوت هادئ دون أن تنظر له: شكرا أنا أتدبر أموري جيدا.

ولكنها انتبهت لصوت تحطم شيء، فرفعت نظرها بسرعة لتجد النظارة بيده قد كسرها، ويقول لها وهو يجلس بجوارها منحنيا قليلا تجاهها: يبدو أن الأميرة تعشق الاستقلالية بالإضافة إلى الغرور، وضحك بصوت عال ونهض وهو يقول لها هيا للإفطار، ومد يده ليمسك يدها فسحبتها بسرعة قائلة له وكعادة أي دكتاتور يزعجه وجود المستقلين خارج مداره: تذكر أنك أنت من أراد حضوري.. وقد أتيت. وبصوت هامس مع انحناءة تجاهه: لكن إياك أن تظن أنك ستنتزع هذا الاستقلال، وتحركت متجاوزة إياه متجهة لغرفة الطعام، وهي تسمع صوت ضحكاته.

مر الإفطار دون مشاكل، الجميع سعداء يتحدثون ويضحكون، لكن "لي لي" بعالمها تشاركهم أحيانا بابتسامة خفيفة بين الحين والآخر، كل ما كان يضايقها نظرات أدهم المسلطة عليها.

أما هو فكان ينظر لها متعجبا كيف لصمتها وشرودها أن يجعلها أكثر حضورا من كل المتحدثين حولها، كيف لتلك المرأة التي يعتقد من ينظر إليها أنها فتاة في الثامنة عشرة من عمرها أن تكون بتلك القوة والاتزان؟

فجأة انتبه إلى أن أحدهم كان يوجه له الكلام وأن الجميع لاحظ شروده بوجهها، ولكي يخرج من ذاك الموقف ابتسم مدعيا التثاؤب وأنه لا يستطيع التركيز وأنه سيذهب للنوم، معتذرا منهم، ونهض على مضض فهو لم يكن يريد أن يتركها وحدها معهم، خرج من الغرفة غاضبا منها ومن نفسه، مرددا اللعنة.

جلست "لي لي" وبيدها كتاب تحاول أن تركز بحروفه فهي لا تريد أن تنظر للبحر فيجرفها لأمواج ماضيها، فقديما كانت والبحر صديقين؛ كثيرا ما حكت له أسرارها بحلوها ومرها.. حكت له عن أول..

وبصوت عال غاضب صرخت اللعنة، فتفتح عينيها لتجد أمامها زميلا لها قد امتقع لون وجهه وهو يمسك بيده بكوب عصير أحضره لها، ويبدو أنه كان يكلمها وظن أن صراخها كان اعتراضا على ما قال، وبسرعة اعتذرت منه واتجهت لغرفتها، لكن غضبها جعلها لا ترى أدهم الواقف أمامها فاصطدمت به، وقبل أن تعتذر أمسكها من يدها ساحبا إياها إلى غرفة الطعام، جذبت يدها وهي تصرخ بوجهه: إياك أن تلمسني مرة أخرى.

أغمض عينيه بقوة ليسيطر على غضبه ويقول بصوت هادئ نسبيا: أخبريني ماذا قال لكي لتغضبي هكذا؟ لثوان لم تفهم عمن يتكلم، ثم فهمت ما يقصد، ففتحت فمها لتخبره بأنه لم يفعل شيئا، ولكنها فجأة توقفت لتقول: هذا لا يعنيك.

اقترب خطوات منها وأعاد سؤاله بغضب أكثر لترد بغضب هي الأخرى: وأنا قلت إنه لا يعنيك. أخبرتك سابقا وأكررها لك.. أنا أتدبر أمري بنفسي لست بحاجة لتدخلك.

فصرخ بوجهها: بالله يا امرأة لماذا تصرين على اختبار صبري؟ لماذا لا يريد عقلك القابع داخل تلك الجمجمة الصلبة أن يستوعب أني أهتم لأمرك، أني أريد حمايتك؟ ثم صمت قليلا لينظر لها ويقول: لماذا لا يستوعب عقلك أني أحبك، وأريد أن أكون بجانبك؟ أعلم أن خلف تلك العيون الزجاجية قلب يمكنه أن يدفئ برد العالم.

نظرت له بتهكم وحاولت التحرك فاستوقفها بكلامه.. لقد رأيت قلبك فالتفتت تنظر له باستفهام، قال لها وهو شارد: كان ذلك بعد ثلاثة أشهر من عملك بالشركة كنت في أحد المطاعم، وكان هناك طفل يبكي بشكل مزعج حتى أن الجميع بدأ يتأفف من بكائه، وأخذت أمه تعنفه كي يصمت، عندها نهضتِ من مكانك واستأذنتِ الأم كي تجلسي معهما وتهدئيه، وأخذتِ تحتضنينه وتتكلمي معه بصبر حتى هدأ كانت عيناكِ تشعّان حبا حقيقيا ربما أكثر مما كان في عين أمه.

رأيت قلبك بهاتين العينين.. لم تكونا زجاجيتين باردتين هكذا، ومن وقتها وقعت أسير ذاك الغموض.. كيف لمرأة أن تكون نارا وثلجا معا؟

وأكثر ما خطف قلبي في ذاك اليوم الضعفُ والحزن الذي ملأ عينيك.. عندما أخذت الأم طفلها تمسكتِ بيده لحظات ثم قبّلتِ يده ومسحتِ خلسة دموعك وغادرتِ مسرعة، بعدها حاولتُ كثيرا أن أتحدث معك لكن في كل مرة لم أكن أجد فتاة المطعم، فقط سيدة الجليد المتعالية. أخبريني أين خبأتِ تلك الفتاة؟ في أي جبل جليد اعتقلتِها؟

ظلت صامتة تنظر إليه دون أن يرتسم على وجهها أي تعبير، فقال بصوت هادئ: فقط أخبريها أنني لن أسمح لشيء أن يخيفها أو يحزنها، أنا هنا يمكنك أن تعتمدي عليّ.. سأكون السند وقتما تريدين.

يمكنك أن تذهبي الآن. وبدون أي كلمة، تحركت ناحية الباب، فصرخ فيها: كيف يمكنك أن تكوني هكذا؟ أخبريني.. وأخذ يهزها بقوة، من أي جحيم خرجت لي؟
التعليقات (0)