أفكَار

هل هناك حد فاصل بين حرية الرأي وبين النيل من المقدس الديني؟

جدل في تونس حول الحد الفاصل بين حرية الإبداع والإساءة للمقدس  (الأناضول)
جدل في تونس حول الحد الفاصل بين حرية الإبداع والإساءة للمقدس (الأناضول)

لم يكد دستور 27 كانون الثاني (يناير) 2014 ينهي الجدل الحاد، الذي وسم علاقة النخب الفكرية واصطفافاتها منذ ثمانينيات القرن الماضي، فترة أوج الزخم السياسي الطّالبي في تونس، حول الهويّة، حتى أعاد تقرير "لجنة الحريات الفردية والمساواة"، التي أذن الرئيس الراحل محمد الباجي قائد السبسي بإحداثها، والنقاشات التي أثارتها، وهج الجدل الفكري والإيديولوجي، نتيجة ما تضمّنه التقرير المذكور من توصية بإلغاء تجريم "المثليّة الجنسيّة" وفرض "المساواة في الميراث".
 
وقد بلغ الجدل الفكري والإيديولوجي مداه فيما يتعلّق بحدود التعامل مع النص القرآني ومجالات تأويله، مساحات التعبير عن حرية المعتقد وحدودها وتطبيقاتها على وجه الخصوص، عبر تأكيد الفصلين الأوّل والسادس منه على أنّ الإسلام هو دين الدّولة وعلى أنّ حرية الضمير مكفولة. 

فشل الجهات الدّاعمة لتقرير"لجنة الحريات الفرديّة والمساواة"، أساسا الكتل البرلمانية اليسارية والليبراليّة في برلمان 2014 ـ 2019، في الحصول على تزكية اللجان البرلمانية، فضلا عن نيل مصادقة الجلسة العامّة للبرلمان، أعاد المراء الفكري حول كثير من القضايا الهوويّة إلى مربّع التراشق الإعلامي وأبقى التحاكم في كثير منها إلى السلطة التقديرية للقضاة وصراط المجلة الجزائيّة، رغم إقرار فصول دستور الجمهورية الثانية وتوطئته على "تمسّك الشعب التونسي بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال".

ويأتي الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، أواسط شهر تموز (يوليو) الجاري، والقاضي بسجن مدوّنة فايسبوكية (27 عاما) ستة أشهر بتهمة "الدعوة والتحريض على الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان" وتغريمها ماليا بما قيمته 700 دولار أمريكي عن جريمة "النيل من الشعائر الدينية"، بعد نشرها لما عُرف بسورة "الكوفيد"، قصيدة شعرية تحاكي سورة الكوثر، على صفحتها الشخصية للفايسبوك، وفق ما صرّح به رئيس وحدة الإعلام بالمحكمة الابتدائية، ليُلقي حجارة جديدة في مستنقع الهوية. 

فقد أثار القرار القضائي الأخير جدلا واسعا. إذ أنّه لئن استحسن البعض هذا الحكم ورأى فيه "حماية لمقدّسات الشعب المسلم وحفاظا على السلم الأهلية"، فإن البعض الآخر رأى فيه توريطا للقضاء في مسائل تتعلّق بقضايا الرّأي ومسّا من حريّة الإبداع ومجال التعبير الحر. التقرير التالي يستطلع مواقف الأطراف المتباينة من حكم المحكمة الابتدائية والقاضي بسجن مدوّنة بتهمة "التحريض على الكراهية بين الأديان" ويفتح نقاشا حول الحدّ الفاصل بين حريّة الرّأي وبين النيل من الشعائر الدّينيّة فيما يتعلق بنقد المقدّسات الإسلاميّة وإلى أيّ حد تساهم أنسنة الدّين وتكريم الحرية في فسح المجال للتفكير المتعقّل بعيدا عن نشر الكراهية والتباغض بين الأديان.
  
محاكاة ساخرة أم ازدراء بآيات الله؟

لم تخف الأستاذة سعاد بوعتور، ناشطة نسويّة، في تصريح لـ "عربي21"، استياءها من قرار المحكمة الابتدائية بتونس، القاضي بسجن المدوّنة الشابّة، التي قامت بنشر "سورة الكوفيد" على صفحتها الشخصيّة للفايسبوك، معتبرة أنّه كان يفترض أن يكون الفصل السادس من دستور يناير 2014، هو المرجع الوحيد للحُكم على مدى قانونية فعل المدوّنة، المتمثل في نشر عمل أدبي يحاكي سورة قرآنيّة، من عدمها، طالما أنّ الفصل السادس من الدستور يشير بالوضوح إلى أنّ "الدولة راعية للدين، كافلة لحريّة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها".

 



في المقابل، يصرّ الدكتور نور الدّين الجلاصي، أستاذ بجامعة الزيتونة، في تصريح لـ "عربي21"، على أنّ ما اتخذته هيئة القضاء من حكم في حقّ هذه المتهمّة "عدل في حقها وحقّ الشعب، وصيانة للمجتمع، ومنع لفوضى المعنى..."، مضيفا بالقول: إنّ "المحاكاة السّاخرة"، في واقعة المدوّنة ليست مجرّد محاكاة لأسلوب القرآن الكريم وإنما هو ازدراء لكتاب الله تعالى وسخرية منه واستهزاء به... وهو ما يحرّمه الشّرع ويمنعه صريحا في قول الله تعالى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) (التوبة). وفي قوله تعالى: "وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا" (البقرة 231)، فالمحرّم الممنوع ليس محاكاة آيات الله تعالى في المطلق... بل محاكاتها من باب السخريّة والاستهزاء بها...".

وتنادي سعاد بوعتور بحريّة المدوّنة وتوقيف الحكم الصادر في حقها، معتبرة أنّ ما نشرته هذه المدوّنة لا يحاكي النصّ القرآني إلا من حيث الشكل، في حين أن مضمون التدوينة المنشورة (القصيدة) هو يحاكي ويصف فيروس الكرونا، وبالتالي لا ترى في التدوينة المنشورة عملا يقتضي التجريم القانوني، وفق رأيها. وترى بوعتور أن ما تتعرض له المدوّنة من محاكمة، هو تتمّة لسلسلة محاكمات مُشابهة، ذهب ضحيتها شباب كُثر، بسبب أفكارهم، وذلك رغم إقرار الفصل 30 من الدستور بأنّ " حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات".

من جهته، يؤكّد الجلاصي على أنّه لا يمكن تبرير فعلة المدوّنة المتّهمة بما كان سابقة من أبي العلاء المعرّي فيه ظلم للمعرّي نفسه وإمعان في التحريض على مقدّسات الشّعب التونسي وانتهاك للحقيقة العلميّة بالاقتصار على "نصفها" دون ذكر الوجه الآخر لها. مضيفا بالقول أنّه ورد عن ابن العديم في كتابه "الإنصاف والتّحرّي في دفع الظّلم والتّجرّي على أبي العلاء المعرّي"، إنّه "أفتري على المعرّي لكتابه "الفصول والغايات في تمجيد الله تعالى والعظات.." والذي قيل: إنّه عارض به السّور والآيات تعدّيا وظلما، وإفكا به أقدموا عليه وإثما، فإنّ الكتاب ليس من باب المعارضة في شيء، ومقداره مائة كرّاسة". وأوّل من أثار عليه هذه التهمة ابن الجوزي في كتابه المنتظم، وجاراه الباخرزي في دمية القصر وزاد الذهبي في تاريخ الإسلام ـ ناقلا عن الحافظ السّلفي ـ فقال: "فقيل له أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة". وممن دفع عن أبي العلاء هذه التّهمة، أديب دمشق في عصره: يوسف البديعي (ت 1073هـ) في كتابيه: "الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي" و"أوج التحرّي عن حيثية المعري". 

 



ويضيف نور الدين الجلاصي قائلا: "إنّ استدلال المدافعين عمّا أتته المدوّنة، ممّا أسموه بـ"محاكاة ساخرة لأسلوب القرآن"، بوجود محاولات سابقة لأدباءَ كالمازني أو المسعدي أو بيرم التّونسي تقليد أسلوب القرآن ومحاكاته أومحاذاته، فيه كثير من المغالطة والتّلبيس، ذلك أنّه لا يوجد ما يدلّ على الاستهزاء بالقرآن ولا السّخريّة منه في كل ما ذُكر، عكس ما أتته هذه المدوّنة، من محاكاة ساخرة لأسلوب القرآن الكريم، وكانت مقصودة ليس على مستوى تقليد سورة " ق" في جرسها الموسيقي أو استخدام بعض ألفاظها... بل في محاكاة الشكل الظاهري من تقسيم الآيات والانتهاء بعبارة: "صدق جيلو العظيم".

وفيما يتعلّق بنصّ الدستور التّونسي في فصله السّادس، يقول الجلاصي: "إنّ المرء له أن يعتقد ما يشاء فذلك من حقّه... ولكن أن يعلنه بما يفسد به عقائد الشعب وينال منها، أو يسخر من مقدسات الشعب ويهزأ بها فذلك مخالف لصريح هذا النّص... فإذا كان يطلب من المؤمن ألّا يكفّر غيره لما في ذلك من تبعات... فإنه يطلب من غير المؤمن ألّا يستفزّ مشاعر المؤمنين ( وهم الأغلبيّة) حتى يصون نفسه من تلك التبعات"...

توريط القضاء في مسائل تتعلّق بقضايا الرّأي

يرى سامي براهم، باحث في الحضارة العربيّة بجامعة منوبة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ تسليط عقوبة سجنيّة سالبة للحريّة على مدوّنة شابّة، نقلت على صفحتها ما سمّي بـ"سورة الكوفيد" هو بمثابة توريط للقضاء في مسائل تتعلّق بقضايا الرّأي مهما كان الموقف ممّا أتته هذه المدوّنة، مؤكّدا على أنّ "حماية قيم الدّين ومقدّساته لا تتمّ بتجريم من يعبّر عن موقف مستفزّ للشّعور الدّيني، وإنّما الحامي الحقيقي للدّين هما الحريّة والحوار العقلاني. ولا تعدم منظومة الدّين ومعارفه وعلومه الحجّة والبرهان والنقاش العلمي والجدل الفكريّ".

في ذات السياق، يعتبر براهم أنّ كثيرا من المواقف المستفزّة والرافضة للسّائد الديني والثقافي والمجتمعي إنّما هي ردود أفعال نفسيّة معارضة أكثر منها مواقف معرفيّة مؤسّسة وفي كلا الحالتين تقتضي الحوار والتفهّم لا التجريم والعقوبة.

 



من جهته يتساءل إبراهيم بن صالح، متفقد عام تعليم ثانوي وعضو الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، في تصريح لـ "عربي21"، قائلا: "هل يمكن للإنسان أن يبدع في علم من العلوم أو فنّ من الفنون من دون توفّر مناخ من الحريّة التامّة؟ وهل يمكن أن نظفر بالتجديد في أيّ ميدان والمبدع المجدد يعيش تحت طائلة الخوف من الملاحقات القضائية؟".

الفنان والبحث المتواصل عن الابتكار

يرى إبراهيم بن صالح أنّه "للفنّانين والمبدعين الحرية الكاملة في أن لا يكونوا منخرطين في القيم السائدة في المجتمع، ولهم الحق في أن يبدعوا أعمالا صادمة أو مزعجة أو محزنة، لأنّ الفنّان لا يبحث عن الحقائق أو التّماهي مع ما هو سائد وإنّما همّه الابتكار والإبداع على غير مثال من أجل الإمتاع وتحقيق اللذّة في النّفوس وأن الفنان بإعماله التجديد يشرّع لوجوده الفنّي.

في نفس الإطار يشير بن صالح إلى أنّ الفنّان يطلب الحريّة من أجل إبداع العمل الذي يسمح بتعدد القراءات وتنوّع التّأويلات، لأنّه بهذا التنوّع وذاك التعدد يغتني المعنى وتتسع الآفاق ويقع التخلّص من صنميّة المعنى الواحد والمقولات النهائيّة والجزميّة والنمذجة ويقع الارتقاء بالقراءة عن السطحيّة الفذّة والابتعاد عن تجويف المقدّس وأدلجته.

 



ويذكّر بن صالح عمّا لحق مبدعين كثر عربا ومسلمين وأوروبيين من تكفير واتهامهم بالخروج على الأخلاق والتمرّد على القيم السائدة، من ذلك ما حصل للمعرّي وفلوبير وألبير كامي. مضيفا أنّ "السبب الأصلي في اتهام الفنان بالزندقة هو أنّ بعض الأوصياء على المقدّس لم يفهموا أنّ الفنّ ينتمي إلى عالم الخيال وأنّ الخيال يقوم على مبدأ تغيير العلاقات بين الأشياء بطريقة غير مألوفة. وأن الواقع والخيال سجلاّن مختلفان في مستوى التصوّرات وفي مستوى الرؤية وفي مستوى المعاجم. تكمن المشكلة في الثقافة السائدة وما تستوجبه من تحوّلات كي يبدع الفنّان بحرية".

وتساند سعاد بوعتور، ناشطة نسوية، في تصريح لـ "عربي21"، ما ذهب إليه إبراهيم بن صالح من فيما يتعلق بضرورة النأي عن محاكمة الأعمال الفنية بصراط الثقافة السائدة، مؤكّدة على أنّ الأدب العربي يزخر بالمحاكاة، من ذلك ما سبق أن قام به بيرم التونسي، من كتابة ما أسماها بسورة "الستات"، في باب نقده للمجتمع وثقافته المحافظة. إضافة إلى كتابات الأديب الراحل محمود المسعدي، في روايتيه "السد " و"حدث أبو هريرة قال"، بحثا عن البلاغة. وبالتالي فإن ما تتعرّض له المدوّنة من محاكمة، وصفتها بالظالمة، لا تعدو أن تكون سوى مصادرة على النوايا.

في ذات السياق، ترى سعاد بوعتور أنه كان يفترض مقاضاة الأطراف وصفحات التواصل الاجتماعي التي قامت بتهديد المدوّنة بالاغتصاب والقتل، بدل الإسراع في محاكمتها على النوايا. وتتهم بوعتور أطرافا سياسية بعينها، بالوقوف خلف ما اعتبرته محاكمة ظالمة، بالانتصار لخلفيات إديولوجية معادية لحرية الرأي والتعبير وفق رأيها.

تحويل براديغم سلطة المقدّس من إكليروس الدّين إلى إكليروس العلمنة

لئن أكّد إبراهيم بن صالح على أنّ الإنسان لا يمكنه الإبداع ما لم يكن في مأمن من قمع السلطة السياسية أو الدّينيّة ومن تزمّت الأوصياء على الدّين والمقدّسات عموما، مضيفا في الآن نفسه أنّ إبداع الإنسان وتميّزه مرتبط بتحرره من الموروثات البالية وضروب التقاليد المكبّلة للخيال وملكة الإبداع، متسائلا أن ماذا سيكون الحكم على مبدعين من أمثال المعرّي وأبي نواس وأبي العتاهية ومحمود المسعدي والحداد والشابي لو كانوا يعيشونا حاضرنا، فإن الباحث سامي براهم، ورغم رفضه الزجّ بالقضاء ليكون حكما في المسائل الفكريّة، فإنّه يُشدّد على أنّه "من غير الدقّة العلميّة والأدبيّة اعتبار كلّ ناقدي الأديان والمُزدرين له أو السّاخرين من رموزه وأعلامه ومعتقداته، أصحاب رؤية وتصوّر وفكر ومشروع إصلاح وتنوير وتجديد وتثوير للأديان، كما يصّورون أنفسهم أو كما يتوهّمون، بل إنّ كثيرا منهم هم طالبُو شُهرة أو مُعبّرون عن مواقف سياسيّة وأيديولوجيّة لا تعبّر ضرورة عن مضمون معرفي".

مضيفا في ذات السياق أنّ تقديس الحريّة هو تقديس لتمثّل من تمثّلاتها، وأنّ هذه القداسة مُوجّهة وتكيل بمكيالين لأنّ مجالها المفضّل لاستعراض بطولاتها هو الدّين ليس إلاّ وأنّ نفي القداسة عن الدّين وسحبها على الحريّة لا يُغيّر من الوضع المأزوم للمقدّس المُسيّس الذي يتمّ إقحامه في إدارة الشّأن العامّ، هي فقط عمليّة تحويل لنفس براديغم سلطة المقدّس من إكليروس الدّين إلى إكليروس العلمنة. 

نحو أنسنة الدّين واحترام القيم الاعتبارية للشعوب

يشير سامي براهم إلى أنّ تكريم الحريّة وإحاطتها بضوابط لا تمسّ من أصلها لا يمثّل استهدافا لها بل تكريما وتنزيلا لها في الموقع الذي تستحقّه في إدارة الشّأن العامّ وبناء الانتظام المدني والعمران البشري، في زمن المدنيّة والحداثة الكونيّة المنفتحة على كسب الشّعوب والحضارات وثقافات الأمم. 

في ذات السياق، يشير براهم إلى أنّ "تأنيس الدّين تعني التخفيف من وضع الإعلاء والأسراريّة والرّهبة والتّماميّة التي يضفيها عليه الأتباع وجعله مؤنسنا مؤنسا مفتوحا لإعمال الرّأي، التّأنيس لا يقتضي إقصاؤه وحصره في زاوية الفضاء الخاصّ وتعقّبه وملاحقته حتّى في هذا الفضاء الخاصّ لإرباكه والتّشويش عليه وترذيله". ويضيف براهم بالقول أنّ استبدال مقدّس بمقدّس هو إعادة إنتاج للمقدّس في بعده السلطويّ القهريّ الوثوقيّ ، الأنسنة والتعايش واحترام الرموز والمعالم والقيم الاعتباريّة للمختلف هي السبيل لبناء السلم الأهلي الدّائم والمدنيّة، وأنّ إدارة الشأن العام تُبنى إدارة الشّأن العام على التعاقد لا على القداسة مهما كانت مرجعيتها.

من جهته يرى إبراهيم بن صالح إلى أن الإبداع سليل حالات الشك وطرح الأسئلة حول كل عناصر الحياة بلا استثناء، مؤكّدا على أنّ ما يجري اليوم من تجريم ومحاكمة للمدوّنة الشابّة هو من قبيل ما كان قد حصل من حرق لمعرض العبدليّة سنة 2012، وهو لا يخرج عن باب البداوة السياسيّة، التي تتنافى والانتظام الاجتماعي المدني. ويذكّر بن صالح في هذا الإطار بقولة عبد الرحمن ابن خلدون: "إنّ الأمّة إذا أوغلت في البداوة كانت أبعد ما يكون عن الحرية"، معتبرا أنّ الشباب أولى بهذه الرّوح الفيّاضة من الحرية والمغامرة والإبداع من أجل حياة جديدة.

في المقابل، يشير الدكتور الصحبي بن منصور، مؤرخ تونسي، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّه رغم أنّ مدوّنة التراث الإسلامي قد حفلت بأفكار نقديّة لعصرها، على غرار "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي، التي نقد فيها مفهوم الشفاعة، إلاّ أنّها قوبلت بحفاوة كبيرة على مرّ العصور، دون تكفير أو انزعاج من مؤلفها، لأنه لم يكن يقصد ازدراء دينه، وإنّما كان هدفه التعبير عن رؤية نقديّة للفكر البشري.

في ذات السياق، يؤكّد بن منصور على أنّه لا يرى مناصبة العداء لكلّ من يتجرّأ على النصّ القرآني بالمحاكاة الإبداعيّة أو الاستهزائيّة، وإنّما الدّخول معه في حوار بنّاء يقوم على الحجّة والإقناع. 

محاكاة النص القرآني في ظلّ غياب ركن القصديّة

يشير الدكتور الصحبي بن منصور، مؤرخ تونسي، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ حريّة التعبير المقترنة بحريّات أخرى مكفولة قانونيا وأخلاقيا في كثير من البلدان على غرار حرية التفكير وحرية الإبداع، إلا أنّ حريّة الإعلام لها حد تقف عنده ولا تتخطّاه حتى لا نقع في المحظور، المتمثل في انتهاك مقدّسات الغير وتسليط العنف الرّمزي عليهم ممثّلا في الاستخفاف بمعتقداتهم والاستهزاء بمشاعرهم الدّينية. وهذا أمر خطير لأنّه مُولّد للعنف، علاوة على أنّه من مظاهر التحريض على الكراهية ومن دوافع التكفير وتفشي العداوة.

 



في ذات الإطار، يشير بن منصور إلى أنّه بين حرية الرّأي وبين المسّ من المقدّسات خيط رقيق لا نتبيّنه أحيانا كثيرة إلا من خلال ركن القصديّة، بمعنى أنّ الاستعارة اللفظيّة أو الاقتباس قد يُقبلا في إطار إثراء النّصوص ونحت الجمال من صخر اللغة العربيّة، غير أنّ المحاكاة للرّسم القرآني مثلا في إطار استعارة شكليّة لقدسيته قد تُؤدّي، إذا كان سياقها استهزائيّا إلى توليد الإحساس بالمهانة لدى الإنسان المسلم.

ويؤكّد بن منصور على أنّ الإسلام حفظ حريّة المعتقد في كثير من الآيات القرآنيّة، من قبيل: "لا إكراه في الدّين" و"لو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا. أفأنت تكره النّاس حتى يكونوا مؤمنين". و"لكم دينكم ولي ديني...". مضيفا أنّ الفصل السادس من الدّستور، الذي يكرّس حرية الضّمير والمعتقد يُحمّل الدّولة مسؤوليّة حماية المقدّسات.

من جهة أخرى يشير بن منصور إلى أنّ الحرّيات في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لها حدود تقف عندها. لذلك فإنّ أيّ تشويه يستهدف ديانة من الدّيانات فإنّه يصبح خرقا للفصل التاسع من الاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، التي بقدر التنصيص على حريّة الإنسان فإنّا تنصّ على القيود المحددة لها في القانون حماية للنظام العام والآداب وحقوق الآخرين وحرّياتهم.

التعليقات (1)
محمد أنور سائحي
الثلاثاء، 28-07-2020 04:10 م
تشجيعاتي لكم أستاذي..