قضايا وآراء

الصحفي الحانوتي

سمير حسن
1300x600
1300x600
خصصت صحيفة نيويورك تايمز صفحتها الأولى يوم الأحد الماضي؛ لنشر أسماء ومعلومات مختصرة عن ألف شخص، أو واحد في المئة ممن قضوا بفيروس كورونا في الولايات المتحدة، تحت عنوان: "خسارة لا تحصى، وفيات الولايات المتحدة تقترب من مئة ألف".

وقد جاءت المبادرة بعد تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قرب فتح المدارس، مستعجلا تخفيف إجراءات الإغلاق مع تراجع الاقتصاد وتزايد البطالة.

التوتر بين الصحيفة والرئيس معروف من قبل، إذ يصنفها ترامب ضمن "صحف الأخبار الكاذبة".

تقول نيويورك تايمز إن المبادرة رمزية لبيان فقدان أرواح الأمريكيين جراء فيروس كوفيد- 19.

وتظهر مبادرة الصحيفة إنسانية لكنها لا تخلو من السياسة، إذ يبدو أنها أرادت لفت نظر الرأي العام الأمريكي إلى التناقض بين دعوة ترامب لتخفيف إجراءات الإغلاق وارتفاع عدد الوفيات، وهو ما يمكن قراءته في ثنايا أهم جملة "خسارة لا تحصى".

لا يختلف اثنان على أن الخوف ينتاب الجميع مع بداية انتشار أي وباء أو مرض معد، وفي هذه المرحلة الأولية تريد الجماهير الحصول على المعلومات أكثر من التحليل، ولا شك في أن الأرقام جزء مهم من المعلومات.

لكن لوحظ مع انتشار فيروس كورونا في الصحافة عموما والعربية خصوصا؛ التعامل مع أخبار الوباء بتكديس الأرقام عن عدد المصابين والمتوفين والمتعافين، وتفترض في القارئ أو المشاهد أن يكون عالما في الإحصاء أو خبيرا في قواعد البيانات.

وقد يكون الأمر مقبولا في الصحافة المكتوبة، إذ يمكنك إعادة قراءة الأرقام والنظر فيها، لكن لك أن تتخيل ماذا سيحدث عندما تشاهد نشرة أخبار تلفزيونية، خصصت 20 دقيقة منها لأخبار الفيروس فتسمع 33 رقما.

ساهم تكديس الأرقام في إشاعة حالة من الهلع انساقت وراءها الجماهير، فباتت متابعة هذه الأرقام وردا وهوسا قبل النوم وبعد الاستيقاظ.

ومهمة الصحافة أن لا تصدر الهلع إلى الرأي العام؛ بقدر ما تطلعه على الحقيقة دون مبالغة إعلامية أو مزايدة سياسية.

في بداية الوباء تحول المحتوى الصحفي إلى مسألة حسابية دون تحليل واقعي للأرقام تفضي إلى قراءة متوازنة لما يحدث. فبينما كانت الأرقام تتوالى وتكبر في التقارير والأخبار، كانت تصريحات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الفيروس سيبقى في الصين ولا داعي لإعلانه وباء. لكن تحليل الأرقام كان يشير إلى أن الفيروس ينتشر أربعين ضعفا منذ ظهوره في كانون الأول/ ديسمبر 2019 وحتى أوائل آذار/ مارس، لكن الصحافة لم تنتبه إلى ذلك إلا بعد اعلان المنظمة الفيروس جائحة في 11 آذار/ مارس الماضي.

أهم ما يلاحظ في تغطية الصحافة لجائحة كورونا هو تجريد المحتوى وخاصة في العناوين من المشاعر الإنسانية، وتحديدا في التعامل مع أعداد الوفيات، فجاءت دون إحساس بعظمة الحدث وبلا إدراك لمصيبة الموت، أو احترام للموتى أو مبالاة بمشاعر المرضى. فيمكنك حتى الآن قراءة أو سماع عناوين من قبيل "البرازيل تحتل المرتبة الثانية بدلا من روسيا في معدل الإصابات والوفيات".. "إسبانيا تتخطى الصين وتحتل المركز الأول في عدد الوفيات".. "أوروبا تستأثر بأكبر عدد من وفيات فيروس كورونا في العالم".

وكأننا في مسابقة أولمبية أو ناد للقمار، وكأن الوفيات ميدالية ذهبية يستأثر بها فريق دون آخر.

ومثل التعامل الصحفي مع أعداد الوفيات والإصابات كمثل حانوتي يزين إصبعه البنصر بخاتم من ذهب، والإبهام والخنصر يمسكان بكوب شاي، ودخان سيجارته يتصاعد من بين السبابة والوسطى، ولا يلبث أن يصيح بالسباب بين حين وآخر على صبيانه إن أخطأوا أثناء دفن جثة، غير مكترث بمشاعر أهل الميت الذين يكادون يرجون أن تبلعهم الأرض حزنا.

ثم يجلس في نهاية يومه يقيم مكسبه بعدد الجثث التي دفنها، غير مبال هل دفن صديقا أو قريبا، صغيرا أو كبيرا.

لا شك في أن الأرقام مهمة وقت الكوارث والأوبئة، لكن وفق محددات.

فقد سيطرت على التغطية في الصحافة العربية خصوصا جملة "الارتفاع القياسي" في الوفيات أو الإصابات، مثل "شهدت إسبانيا ارتفاعا قياسيا في الوفيات"، وهي جملة أطلقت دون تفكير وتتعارض مع الموضوعية والدقة، لسبب بسيط هو استمرار انتشار الفيروس، وكل يوم يظهر رقم جديد في نفس البلد أو في بلد آخر، ولا أحد يعلم موعد ولا حجم الارتفاع القياسي الحقيقي بعد.

الاهتمام المبالغ فيه بعرض الأرقام لم يخلو من انعدام الدقة، فتجد عنوانا يقول "مئة ألف وفاة بسبب كورونا في العالم"، لكن الرقم الحقيقي هو 101900، وتقتضي الدقة أن نقول أكثر من مئة ألف.

وقد تعنون نشرة "وفيات كورونا في العالم تتخطى خمسة وعشرين ألفا... "وفي متنها نجد الخبر يقول: "ستة وعشرون ألف شخص قضوا منذ بدء أزمة تفشي فيروس كورونا".

ولذا وجب على الصحفيين الالتفات إلى أن تغطية الأوبئة والكوارث ليست مجرد أعداد موتى ومصابين ومتعافين، وإنما وراء كل رقم حياة إنسان، وحياة الإنسان أغلى ما على الأرض شرعا وقانونا وعرفا.
التعليقات (1)
شكرا سمير
الثلاثاء، 26-05-2020 06:10 م
الأرقام عند الغرب تعني أشياء كثيرة وكل رقم له خصوصياته والصحفي كي لا يغوص في التفاصيل الكثيرة فانه يكتفي ببعض الأرقام وهو مطمئن ويدرك جيدا أن رجالا ومؤسسات بل كل الدولة والشعب يقومون بالواجب لتخطي المرحلة أو التخفيف من مضاعفاتها ويتألمون أشد الألم لفقد انسان..أما الصحافة العربية فهي مميزة سواء كانت ديكتاتورية ديمقراطية أو ثورية أو أي شيء آخر والكل يوجه سهما لأحد ما ويغمض عينه عن آخر ويتناسى مصيبته علما أن الكل سواسية في التخلف والجهل وعدم الاكترات بالمواطن. واللعب بالأرقام والدرجات هي لارهاب المواطن المحلي الذي لا حول ولا قوة له كي يدخل الجحر ويصمت وفي نفس الوقت كي تبين للمواطن أن بلده التي لا تتوفر على ميركريكروم او حتى ضمادات للجروح في الأيام العادية بألف خير وأن خطة فلان ناجحة وستدرس للأجيال القادمة في كل المواد ...