كتب

الحداثة الغربية والطريق إلى الاغتراب.. وجهة نظر ألمانية

كاتب ومفكر ألماني يُقدم منظورًا إبداعيًا لنقد الحداثة والفكر الاستغلالي الذي أنتجته (عربي21)
كاتب ومفكر ألماني يُقدم منظورًا إبداعيًا لنقد الحداثة والفكر الاستغلالي الذي أنتجته (عربي21)

الكتاب: إنعدام الوفرة  
المؤلف: هارتموت روزا
الناشر: ريزيدنس فيرلاغ
الطبعة السادسة 
سنه النشر: 2020
عدد الصفحات: 136

تزخر أدبيات مدرسة فرانكفورت النقدية بالمساهمات الأصيلة التي تنتقد النظام الرأسمالي والثقافة الاستهلاكية غير العقلانية الناتجة من هذا النظام إضافة لنقد الحداثة وما وينتج عنها. الكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن نقد فلسفي للحداثة، فالفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا ينتمي لمدرسة فرانكفورت النقدية. يتمحور هذا الكتاب حول فرضية أن الحداثة الغربية تهدف لجعل كل شيء متاح ومتوفر لكن هذه الرغبة أسفرت وبحسب الكاتب إلى الشعور بالاغتراب وانعدام الحنين والشوق لأي شيء، بل وانعدام الوفرة. 
 
في المقدمة يُوضح الكاتب أن القوة الثقافية الدافعة والتي تُسمى حداثة هي التصور والرغبة بل والشهوة بجعل كل شيء متاح ومتوفر بأي مكان وزمان. لكن وبحسبه فإن الحيوية والتجربة الحقيقة في هذا العالم تنشأ بعلة عدم وفرة الأشياء، حيث لو كان العالم مُدركًا، ومُسيطرًا على كل شيء ومُخطط له بإحكام، فإنه سوف يكون "عالما ميتا"، أي أن عدم إتاحة كل شيء للناس يجعل الحياة ذات قيمة ومغزى للناس وتدفع بهم للنشاط والحركة والتجربة الحقيقية في حياتهم وعلاقاتهم. 

في الفصل الأول والمعنون بـ "العالم كنقطة عدوان" يطرح هارتموت روزا فرضية أن هدف ما بعد الحداثة جعل كل شيء مُدرك، ومُتقن، ومُستولى عليه وقابل للاستخدام والاستغلال، وبالتالي ليس الجشع لتملك المزيد ما يحفز الناس على العمل بل خوفهم من خسران ما هو متوفر لديهم. هذا جعل المجتمعات الحداثية تنظر لكل شيء من منظور الاستغلال والهيمنة والسيطرة. 

في الفصل التالي والمعنون بـ "أربعة أبعاد للوفرة" يبين الكاتب كيف أن جعل كل شيء متاح يعتمد على أربعة أوجه وهي: أولًا: استغلال كل ما هو موجود، فمثلا بواسطة الضوء الكهربائي يتم استغلال الليل وجعله وقتا قابل للاستغلال والعمل والإنتاج. ثانيًا: جعل كل ما هو موجود قابل للوصول، وهذا من أهداف اختراع مكوك الفضاء على سبيل المثال للوصول للقمر لجعله ضمن حيز الإدراك والوصول. ثالثًا: جعل كل شيء تحت السيطرة، يوضح الكاتب أن قصة الحداثة هي حكاية السيطرة والهيمنة، السيطرة على الليل بواسطة الضوء، وعلى البحار بالغواصات والسفن، وعلى الجسد بالدواء، وعلى الطقس بواسطة المُكيفات. رابعًا: جَعل كل شيء قابل للاستخدام أداة مفيدة للإنتاج والتصنيع. 

 

بسب أن الإنسان في ظل الحداثة يحاول جعل كل شيء قابل للتنبؤ والحساب والسيطرة والاستغلال فإن الشعور بالغربة وعدم الانتماء أصبحت الصفة التي يمكن وصف الإنسان بها. وفقا لذلك فالحنين الذي هو الشعور بالانتماء للإنسانية والأشياء اضمحل، فإتاحة الأشياء سلب من الإنسان حنينه وجعله مُغتربًا لا ينتمي لأي شيء.

 


في الفصل الثالث والمعنون بـ "التقهقر المحيِّر للعالم" يبين هارتموت روزا أن الأبعاد الأربعة المذكورة أعلاه للوفرة أدت إلى عكس النتائج المتوقعة منها. فالهدف من جعل كل شيء قابل للوصول خلق روح الاغتراب وفقدان العلاقات بين الأفراد بل وبين الأفراد والعالم. فبدلا من جعل كل شيء تحت النفوذ، خرجت الكثير من الأمور عن السيطرة، وعوضًا عن كسب العالم والطبيعة فإننا نهدرهم بالتلوث والاستغلال، وبدلا من إدراك وفهم العالم فإننا فقدنا القدرة على قراءة العالم. 

في الفصل التالي والمعنون بـ "العالم كنقطة للحنين" يُعرج الكاتب على جانب من "نظرية الحنين" والتي كتب بها روزا كتابا يعتبر من أهم إنتاجاته الفكرية. فبسب أن الإنسان في ظل الحداثة يحاول جعل كل شيء قابل للتنبؤ والحساب والسيطرة والاستغلال فإن الشعور بالغربة وعدم الانتماء أصبحت الصفة التي يمكن وصف الإنسان بها. وفقا لذلك فالحنين الذي هو الشعور بالانتماء للإنسانية والأشياء اضمحل، فإتاحة الأشياء سلب من الإنسان حنينه وجعله مُغتربًا لا ينتمي لأي شيء. 

يطرح الكاتب بالفصل الخامس والمعنون بـ "خمس فرضيات لوفرة الأشياء" عدداً من الفرضيات التي تنشأ عن وفرة الأشياء والخبرة التي تنتج من عدم وفرة الأشياء بشكل دائم ومستمر. ومن بين هذه الفرضيات أن الأشياء التي تكون متاحة لنا بشكل كامل تُفقد قيمة الحنين لها، حيث الشعور بالحنين يتطلب ألا تكون الأشياء متوفرة بشكل كامل، فالشعور بالحنين للوطن يتطلب وجود وطن أولاً ثم أن يكون هناك ابتعاد عنه، هذا الشعور بالابتعاد يُطلق العنان للحنين للوطن. بعبارة أخرى، الحنين عبارة عن فطرة وخاصية في الإنسان لكن توفر كل شيء بشكل تام وكامل يبدد هذه الخاصية، وبالتالي يعيش الإنسان بانعزال وعدم شعور بالانتماء أو الحنين لشيء، مما يؤثر سلبًا على سيكولوجية الفرد والمجتمع. 

بالفصل التالي والمعنون بـ "الإتاحة أو السماح للأشياء بالحدوث؟" يتحدث روزا عن ستة صراعات أساسية ترافق حياة الإنسان منذ الولادة إلى الممات. فالإخصاب في المختبر وقوانين التبني في المجتمعات الحداثية جعلت الأطفال شيئا قابل للإتاحة. هذا وبحسب الكاتب فإنه لا يعتبر جيدًا أو سيئًا بل يعكس القدرة على إيجاد ما لم يكن متاحا في السابق. 

جانب آخر لهذه الصراعات التي ترافق الإنسان تتعلق بالحب، وهو العلاقة التي تحكم السلوك بين الزوجين لكن الحداثة ومن خلال المؤسسات الحقوقية والقوانين الاجتماعية وضعت مبادئ وقوانين للمحافظة على العلاقات الزوجية من الجانب القانوني كضمان في حال انعدم الحب بين الزوجين. لكن جعل إتاحة القوانين في هذا الصدد لا يعني القدرة على الاستمرارية بالعلاقات الزوجية. 

"الإتاحة كضرورة مؤسساتية: المنظور البنيوي للصراعات" هو عنوان الفصل السابع، حيث يُوضح المؤلف عدة جوانب للصراعات البنيوية الناتجة عن فكرة الإتاحة على المستوى الفردي والمجتمعي. فعلى سبيل المثال، هناك عوامل ضاغطة على الأفراد والمجتمع للتحسن المستمر بالإنتاج والعمل بل وبكل جوانب الحياة، فليس بالإمكان الحفاظ على ما هو متاح إلا بإتاحة أمور أكثر مما هو عليه الحال. لذا فمنطق الحداثة أنه يجب أن نُنتج ـ على المستوى الفردي أو المؤسساتي أو المجتمعي ـ هذا العام أفضل من العام الماضي ويجب أن يكون الإنتاج بالعام القادم أفضل من كل الأعوام الماضية. بسبب هذا المنطق وبحسب الكاتب فإننا لا نعيش الظواهر من حولنا بتنوعها الهائل بل أن طبيعة فهمنا لكل شيء مرتبط بجعل الأشياء متاحة سواء كان ذلك على المستوى الاقتصادي أو التكنولوجي أو غيرها من المجالات ذات الصلة.

في الفصل التالي والمعنون بـ "عدم توفر الرغبة بما هو متاح والرغبة بما هو غير متاح" يؤكد الكاتب أن عالما مُتاحا به كل شيء سيكون عالما غير جذاب بل وبدون أي نوع من الحنين والشوق، فلن يكون هناك رغبة أو حافزا بعمل أي شيء. أيضا سيكون هناك زيادة بالاكتئاب والإحباط بين الناس. فحيث هدف الحداثة جعل كل شيء مُتاح فإن ما يحدث هو انعدام الإتاحة بشكل غير محدود، فعلى سبيل المثال، من أهداف الإتاحة إيجاد السعادة، لكن ما ينتج بسبب الإتاحة الكاملة هو الكآبة والتثبيط بحسب المؤلف.

في الفصل الأخير "فظاعة انعدام الإتاحة" يُبرهن روزا أن فكرة جعل كل شيء متاح بالعالم يهدد بالنهاية إلى الوصول لنتيجة معاكسة تماما، وهذه الحالة الناتجة سوف تكون أسوأ من عدم الإتاحة الأصلية كوننا لا نمتلك الكفاءة الذاتية والخبرة السابقة للتعامل معها. 

في الخاتمة يشير المؤلف إلى أن هذا الكتاب يحتوي على ما يمكن تخصيصه بأنه التناقضات الأساسية للحداثة، فهو يأمل أن تكون هذه المساهمة مؤازرة لنا بتوضيح من أين ينبعث وينتج الإحباط من الحياة بالمجتمعات الحداثية وما هو مصدر الغضب من عالم مُنفتح ومتاح به كل شيء وبشكل غير مسبوق. 

إن هذا الكتاب يُقدم منظورًا إبداعيًا لنقد الحداثة والفكر الاستغلالي الذي تقوم عليه، ففهم الحداثة من هذا المنظور النقدي لا يساعد فقط باستيعاب المُجتمعات الحداثية ومآزقها الداخلية بل أيضا بفهم العلاقات الدولية وكيفية تعامل هذه الدول الحداثية مع بعضها ومع غيرها. فالاستعمار الغربي يمكن فهمه من هذا المنظور حيث من أهدافه الهيمنة والسيطرة واستغلال كل ما هو موجود كمصدر للإنتاج والتصنيع. لذا، فإن هناك أهمية فائقة لتعريب مثل هذه الكتب للعربية، مع التأكيد أن تعريب مثل هذه الكتب يجب أن يكون من اللغة الأصلية وهي الألمانية إلى العربية. 

*باحث مُشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول "زعيم" ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.

التعليقات (0)