قضايا وآراء

هل هي نهاية السياف مسرور؟

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

أول مشهد بدأ يختفي من العالم العربي بسبب التحولات العميقة التي هزته، هو مشهد السياف مسرور الذي كان رمزا أدبيا للحكم المطلق وعنوانا عربيا تاريخيا، لجمع كل السلطات في يد الحاكم العربي، ولم يكن السياف مسرور سوى الجلاد الجاهز لتنفيذ أي حكم فردي، وفي الحال دون تردد أو نقاش. 

 

الديمقراطية تبدد الوهم

وجاءت مشاهد البرلمان التونسي والتصويت على الحكومة يوم الأربعاء الماضي، لتؤكد لي ولغيري أن الديمقراطية بدأت تبدد أوهام الاستبداد العربي، وبالطبع فإن غياب السياف مسرور إلى الأبد، سوف يفتح عهدا حضاريا للأمة، يعود فيه للإنسان المواطن حقه في الحياة، دون رعب السياف وفي منأى عن الأمزجة والطاغوت. 

صورة السياف مسرور الواقف بين أيدي أمير المؤمنين هارون الرشيد، ظلت تداعب خيالنا منذ الطفولة كأنها ملحمة عربية صميمة، حين بدأنا نقرأ أمهات كتب الأدب العربي مثل كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، وكذلك أدب الخيال مثل ألف ليلة وليلة. 

 

صورة السياف مسرور الواقف بين أيدي أمير المؤمنين هارون الرشيد ظلت تداعب خيالنا منذ الطفولة كأنها ملحمة عربية صميمة


وتواصلت صورة السياف مسرور ترافقنا مع قدوم الأفلام المصرية الأولى أبيض وأسود والمستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة، التي نرى فيها من خلال شاشاتنا القديمة ذلك الرجل الأسود البدين القوي، مفتول العضلات والممتشق سيفا ضخما، وهو يأتمر بأوامر الخليفة الأموي أو العباسي الذي كان يجسده عادة الممثل المصري عباس فارس بصوته الجهوري كلما ناداه: يا مسرور اقطع رأسه! وكان يقوم بدور مسرور نفس الممثل المصري على مدى ربع قرن، ونظل نحن الأطفال المساكين نرتعد في قاعة السينما، مع الضحية الذي لا يملك استئنافا ولا نقضا للحكم البات والفردي، ويغمض الحساسون منا وذوو القلوب الرقيقة عيونهم إلى أن يمر مشهد قطع الرأس. 

وما كان أكثر الرؤوس المتدحرجة في بلاطات الخلفاء والملوك عبر التاريخ العربي ظلما وعدوانا، وما أكثر السيافين في كل العصور العربية المظلمة! 

 

الاستبداد يخلف الاستعمار


ومع مرحلة الاستعمار في بلاد المغرب العربي عشنا بالفعل مأساة السياف مسرور، لكنه هذه المرة يخدم ركاب المحتل الفرنسي ويلاحق المجاهدين ويغتال المقاومين، ورأينا مسرورا يرفع سيفه البتار لينال من حقوقنا في الاستقلال والحرية، وهو موظف في إدارة المستعمر. 

وحين حصلت بلداننا على استقلالها، تذبذبت حكوماتنا الوطنية بين انتهاج نهج الوفاق والمصالحة واتباع طريق تصفية الحسابات بين الفرقاء والخصوم والمتنافسين على السلطة، فعاد شبح السياف مسرور يرتاد بلاطات الحكم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وشهدت تونس فتنة الانقسام الخطير والدموي بين بورقيبة وغريمه ورفيق كفاحه المرحوم صالح بن يوسف، واستعمل بورقيبة نفس السياف ضد الملك طيب الذكر الأمين باشا باي وأسرته وضد المناضل الكبير الطاهر بن عمار، ثم ضد أقرب أبنائه أحمد بن صالح، وأخيرا ضد أوفى الأوفياء له محمد مزالي، وكذلك فعل بعده وريثه زين العابدين بن علي.

وشهدت المملكة المغربية صراعا بين الملك محمد الخامس والسلطان بن عرفة وعاشت الجزائر فواجع التصفيات بين فصائل الدولة بعد التحالفات في مرحلة الثورة، وكان آخر ضحاياها المرحوم الرئيس محمد بو ضياف عام 1992 وعشرات الآلاف من المواطنين. 

وأنا أكتفي بذكر السياف المغاربي مسرور لأني لو فتحت معاجم تاريخ السياف المشرقي مسرور لاحتجنا إلى مكتبات كاملة. ولكل مثقف ومواطن مصري وشامي وعراقي وسوداني ويمني وليبي، أن يستعيد التاريخ القريب لبلاده ليدرك بأن السياف مسرور مصري وشامي وعراقي وسوداني ويمني وليبي، وبأن ضحاياه بالآلاف منذ أكثر من نصف قرن. 

وظلت نداءات الحكام للسياف مسرور هي ذاتها مع بعض التغيير في التفاصيل ومع انتقال السلطة بين يوم وليلة من حاكم إلى حاكم بالانقلابات وبيانات الساعة الأولى.. تغيرت ملامح الديكور وتبدلت الشعارات البراقة وتحولت الأساليب، لكن الذي لم يتغير هو السياف مسرور. بقي كما هو بسيفه المهند يقف وراء العرش ويأتمر بأوامر صاحب العرش، وينفذ ويطيع مع تغيير في الرؤوس المقطوعة، بل إنك تحسبه لا ينظر من هو الجلاد ومن هو الضحية، ولا يهمه من الذي يعطي الأمر ومن الذي يروح في داهية، المهم بالنسبة إليه هو رفع البتار ليهوي به على رقبة بائس مغلول في القيود، دون أن ترف لمسرور عين، ولا أن تصيب يده رعشة وبلا أي حزن ولا تردد ولا سؤال ولا ندم، يواصل أداء وظيفته كالآلة الخرساء العمياء. 

 

ظلت نداءات الحكام للسياف مسرور هي ذاتها مع بعض التغيير في التفاصيل ومع انتقال السلطة بين يوم وليلة من حاكم إلى حاكم بالانقلابات وبيانات الساعة الأولى


إنه مسرور العربي الأبدي الأزلي: ماكينة القتل مسرور الدائم منذ خمسة عشر قرنا من التاريخ العربي! هو ذاته الذي رأيناه ليلة من ليالي تموز (يوليو) 1958 في بغداد يقتل الملك الشاب فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد، ثم رأيناه هو ذاته يقتل قاتلهما عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية العراقية الذي كان على سدة الحكم ذات يوم من أيام يوليو1961. ثم جاء صدام حسين فقتل من قتل إلى أن قتلوه رحم الله الجميع وغفر لهم. 

منطق الرأس المقطوعة كان هو مبدأ الحكم في دولة المماليك، حيث لا يبايع حاكم على العرش إلا بعد أن يقدم للجمهور رأس سلفه مقطوعة، فتحل البيعة ويستوي القاتل الجديد على العرش منتظرا تنفيذ نفس المنطق يوما من الأيام، على يد شقيق أو صديق أو عدو متربص، لأن مسرور يلازم مكانه بطلعته العملاقة وبسيفه المتعطش للدم لا يتحرك إلا بأمر.

التعليقات (0)