أفكَار

مؤرخ جزائري: الأندلس كانت صرّة العالم كما هي أمريكا اليوم

مؤرخ جزائري: كثير من الإسبانيين المعاصرين ينحدرون من أصول أندلسية إسلامية  (عربي21)
مؤرخ جزائري: كثير من الإسبانيين المعاصرين ينحدرون من أصول أندلسية إسلامية (عربي21)

جاء إلى عالم التأليف والتاريخ من بوابة البحث في تاريخ يهود الجزائر، كان الفضول بداية مغامرة ممتعة سرعان ما تعمق في دهاليزها المؤرخ والباحث الجزائري فوزي سعد الله، إلى أن وجد نفسه على سواحل فردوس مفقود اسمه "الاندلس"، وجد نفسه في قرطبة وفالينسيا وإشبيلية وغيرها من حواضر الدنيا الرائقة أيام العز الإسلامي.

في هذا الحوار الثري الذي سيبحر فيه مع قراء "عربي 21" الأستاذ فوزي سعد الله، حديث مؤلم دام عن أكبر عملية تطهير عرقي وديني مسكوت عنها في العالم، تعرض لها الأندلسيون الموريسكيون في أعقاب السقوط المدوي لغرناطة الحلم، وما تلاه من شتات أندلسي وضياع لا يقل إجراما عما تعرض له الهنود الحمر في العالم الجديد أمريكا، إنما ضمن تلك النكبات، كان الاندلسيون نجوما لامعة في الابداع والفن والتكنولوجيا حيثما حلوا وارتحلوا.. حتى صارت اياديهم البيضاء تغمر كل منطقة جنوب المتوسط.

في الأثناء، مفاجآت وكشوفات هائلة، عن العثمانيين ومآثرهم، وعن اليهود الذين عاشوا معنا ردحا من الزمن معززين مكرمين، وعن الثقافات والموسيقى التي تمتد بعيدا.

 

وهذا نص الجزء الأول من الحوار: 
 
س ـ الكتابة في التاريخ، وتحديدا في التاريخ الأندلسي، أخذ منكم جهدا كبيرا وتركيزا واضحا، ولعل كتابكم "الشتات الأندلسي" صار أيقونة لكل باحث في تاريخ الحضارة الأندلسية، لماذا هذا التوجه تحديدا؟


 ـ عادة أختار المواضيع التي تلقى هوى في نفسى، لأن البحث الذي يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا يحتاج لأن تحبه، وإلا لن تصمد طويلا وقد تتعب وتمل وتتخلى عنه في منتصف الطريق أو حتى في بداية الطريق. اهتمامي بتاريخ الشتات الأندلسي نما ونضج خلال دراستي تاريخ يهود الجزائر الذين كان يهود الأندلس يشكلون نسبة كبيرة منهم ومؤثرة في الطائفة اليهودية الجزائرية بمختلف أطيافها برمتها. وهكذا، خلال هذه الفترة من البحث والدراسة، تعرفتُ على بقايا الأندلسيين في الأندلس والمطرودين واللاجئين منهم، ورغبتُ في دراسة مأساتهم بعمق والإلمام بأحداثها، فضلا عن كون الأندلس عزيزة على قلوبنا. 

 س ـ تحدثت في كتاباتك عن مآسي طرد المسلمين من الأندلس منذ السقوط العام 1492 وإلى غاية سنوات الطرد الرسمي الشامل لبقايا أهل الأندلس وأحفادهم بين عامي 1609 و1914.. كيف يمكن تلخيص هذه المأساة وهذا الشتات الرهيب الممتدة لأكث من قرن وعشرين سنة؟


 ـ هي بالفعل مأساة وتراجيديا كبيرة وعملية تطهير ديني وثقافي وعرقي عنصري صليبي ضخمة في قلب أوروبا مسكوت عنها حتى الآن عالميًا حيث ما زالت مجهولة، بما في ذلك في العالم العربي والإسلامي. 

هذه المأساة شملت مئات الآلاف، وهناك من يقول الملايين، مِن الأندلسيين المسلمين وأبنائهم وأحفادهم الذين قُتِلوا وأُحرقوا أحياءً وهُجِّروا وشُرِّدوا وسُجنوا وأجبِروا على التنصُّر وتَبَنِّي العادات المسيحية وترْك كل ما يمتّ للعادات والتعاليم الإسلامية بصلة كاللباس والطَّعام والحديث باللغة العربية وحيازة مؤلفات عربية إسلامية، لا سيما المصاحف وكُتب الدين، والصلاة والصوم والنظافة، بما في ذلك الذهاب إلى الحمَّامات التي تمّ إغلاقها كالمساجد بالقوة، وإحياء الأعياد الإسلامية حتى لو كانت اجتماعية، بما في ذلك الغناء والعزف والرقص على الطريقة الأندلسية الإسلامية... 

بل كانت محاكم التفتيش تدخل البيوت عنوةً للتحقق من عدم وجود مظاهر العيش على الطريقة الأندلسية الإسلامية وتُفتش حتى ما تحت السراويل، والويل لِمن يجدونه مُختتن... حينذاك، وأنت تمشي في الأسواق والشوارع، قد يأتيك راهب من محاكم التفتيش ويجبرك على شرب كأس من الخمر أو أكل قطعة من لحم الخنزير أمام الملأ، وإن أبيت فيستنتج أنك مسلم في الخفاء، وهنا تبدأ مآسيك التي قد تصل إلى الموت...

 

كانت محاكم التفتيش تدخل البيوت عنوةً للتحقق من عدم وجود مظاهر العيش على الطريقة الأندلسية الإسلامية وتُفتش حتى ما تحت السراويل، والويل لِمن يجدونه مُختتن


لكن الإسبان المعاصرين، في الحقيقة، تشجّعوا منذ بضعة عقود وفتحوا هذا الملف في عملية تصالح تاريخية مع ذاكرتهم لتحقيق الانسجام الاجتماعي فيما بينهم، ما دام الكثير من الإسبان اليوم ينحدرون من أصل أندلسي إسلامي، وحتى لا تتكرر مثل هذه المأساة في بلادهم. ولم يعبثوا بهذه الذاكرة، مثلما يحصل عند بعض الشعوب، بل أسندوها لأهل الخبرة في الجامعات ومراكز البحوث الإٍسبانية. 

وقد قطعوا أشواطا طويلة في هذا المجال، مجال التصالح فيما بينهم ومع الماضي، حيث أصبح الإسبانيّ، بشكل عام، منذ نهاية القرن الماضي يَعتبِر الفيلسوف ابن رشد والفنان الموسيقي زرياب وزميله المبدع في الغناء الأندلسي ابن الحاسِب المُرْسِي والشاعر الزَّجَّال ابن قزمان والباحث العِلمي في مجال الطيران عباس بن فرناس والطبيب الزّهراوي جميعهم أجدادَه وإنجازاتهم تراثَه. وبدأت بالتالي تختفي تلك النظرة التي كانت ترى فيهم غزاة محتلين "كفارًا" أعداء الديانة النصرانية... وأنا أتعلم من بحوثهم باللغة الإسبانية الكثير من الحقائق عن الموريسكيين التي لا أثر لها في الأعمال العربية.

س ـ بعد تسليم غرناطة، استمرت حملة الإبادة ضد المسلمين أكثر من مائة سنة، كيف تلخص لنا هذه الفترة السوداء الدامية من تاريخ الأندلس الضائع؟


 ـ تسليم غرناطة تم في يوم 2 كانون ثاني (يناير) 1492م بتعهدات الملوك الكاثوليك باحترام ممتلكات ومعتقدات وعادات وحريات مسلمي مملكة غرناطة، بمعنى أن لا شيء يتغيّر في حياتهم باستثناء أنهم يُصبحون تحت حُكم نظام سياسي نصراني مثلما كان يحدث مع المُدَجَّنين (Los Mudéjares) منذ عدة أجيال. والمدجَّنون هم المسلمون الذين كانوا يعيشون مسلمين في الممالك النصرانية بعد أن تم ضمّ أراضيهم إلى الممالك النصرانية في السابق إثر انهزامهم أمام الغزوات المسيحية الشمالية. 

هكذا كانت التعهدات مثلما وقع في الجزائر في 5 تموز (يوليو) 1830م. لكن الملوك الكاثوليك، كملوك فرنسا لاحقًا، تخلوا عن هذه التعهدات وخانوا المسلمين. وبمجرد ما تَحكَّموا في الوضع، شرعوا ابتداء من 1500م/1501م في عملية التنصير الإجباري للمسلمين مستهلِّين العملية في غرناطة بمئات الفقهاء والأعيان والنُّخب بشكل عام الذين اضطروا في غالبيتهم للتظاهر بالتنصّر مع البقاء مسلمين سرًّا، فيما اختارت أقلية صغيرة الانقلاب دينيا وسياسيا إلى صف الإسبان النصارى، والبعض منهم فعل ذلك منذ 1491م/1492م عندما انقلبت الموازين، على غرار عائلة النِّيَّار وبعض آل المَلِيح وبن يَغَّشْ، الذي أصبح لقبه بالإسبانية Venegas، والبيطار (Albeytar) وآل الزناتي، ومنهم (Daniel S?nchez Zinety) والفِهْري (Hern?n L?pez el Fer?)  وآل ومولاي ومنهم اشتهر مولاي نونْيِيث (Moulaye Nu?ez) وآل عُلَيْلشْ، الذين أصبح لقبهم بالإٍسبانيةLos Oleylas ، وغيرهم، وهم إلى اليوم من الأرستقراطية الإسبانية، فيما طُرِد بعضهم في بداية القرن 17م إلى المغرب العربي أو اضطروا إلى الرحيل.

س ـ مأساة الموريسكيين وهم أندلسيو ما بعد تاريخ السقوط عام 1492، مأساة كبيرة، وأنت من بين المؤرخين الذين تحدثوا عن أعدادهم الكبيرة التي قاربت 1.5 مليون موريسكي .. كيف يمكن التأكد من هذه الأرقام والاحصائيات؟


 ـ أعدادهم كانت كبيرة فعليا، لكنها غير معروفة بدقة واختلف الباحثون في تحديدها. المطرودون بين سنتي 1609م و1614م فقط يتراوح عددهم، حسب الباحثين، بين 280 ألفا و1.5 مليون إلى مليونين كأقصى حد. بينما المسجَّلون ضمن المطرودين على قوائم حكومية رسمية محفوظة في وثائق الأرشيف الإسباني يبلغ عددهم حوالي 280 ألف مطرود. لكننا نعرف أن ليس كل المطرودين تم توثيقهم وتسجيلهم في الوثائق الرسمية. 

أما إذا أضفنا لهم ضحايا الفترة ما بين تسليم غرناطة سنة 1492م وبداية الطرد النهائي الجماعي سنة 1609م، فإن المطرودين واللاجئين وضحايا القتل العشوائي وعبْر القضاء ومحاكم التفتيش والمحكوم عليهم بالتجديف على السفن، غالبيتهم حتى الموت في ظرف بضع سنوات، والقتلى الذين قُتِلوا خلال التمردات والثورات ضد النظام الإسباني وجوْره، يمكن القول إن عدد ضحايا مأساة هذه الجرائم الإسبانية في حق الأندلسيين المسلمين يُقدَّر بالملايين ويفوق بسهولة 3 أو 4 ملايين. 

التأكد من هذه الأرقام بدقة صعب، ويتطلب بحوثا معمقة في كل بلدان حوض المتوسط بالاعتماد على الأرشيف بالدرجة الأولى بالإضافة إلى أعمال المؤرخين والرحّالة الأوروبيين والمؤلفات العربية بطبيعة الحال. وهذا ما لم يتحقق إلا بقدر يسير حتى الآن.
  
س ـ بطولات البحرية الجزائرية في إنقاذ الموريسكيين من الإبادة ونقلهم إلى الجزائر كانت بطولات عظيمة، غير أن التاريخ لم يسلط الضوء عليها وعلى بطولاتها، بحيث تستحق أن تكون مادة ثرية لأفلام تاريخية ضخمة.. أليس كذلك؟ 


 ـ بطبيعة الحال، هذا التاريخ عظيم، وهناك تقصير كبير في حقه، ويستوجب مخرجين وممثلين وكُتاب سيناريو وميزانيات في مستوى هذا التاريخ. لكن هناك ما يوحي بأن هذا التاريخ هو آخر هم أصحاب القرار ولا توجد نية في الاهتمام به، بل هناك نوايا لدفنه ومحوه... انظر كيف يتركون مدينة الجزائر العثمانية وما تبقَّى من أسوارها تنهار، رغم أنهم قادرون على تجديدها، وستفهم كل شيء. كذلك دار السلطان في حومة الباب الجديد في حالة احتضار تُرمَّم منذ بدايات الثمانينيات، يعني 40 سنة، على الأقل دون نتائج تُذكَر فلا الترميم انتهى ولا المال بقي ولا دار السلطان خرجت من دائرة الخطر والموت... 

س ـ كيف لعبت الباباوية الكاثوليكية ومحاكم التفتيش التي صنعتها في جعل الحرب على الموريسكيين المسلمين حربا عقائدية، وبالتالي دفع الموريسكيين إلى القيام بمقاومة دينية روحية أيضا؟


 ـ الحرب كانت صليبية منذ ما قبل سقوط غرناطة في نهاية القرن 15م بل منذ قرون سابقة لسقوطها حيث انطلقت في القرن 11م وشملت المغرب الإسلامي والأندلس والمشرق. وما زالت مستمرة إلى اليوم وفي نفس المجال الحضاري الجغرافي، أيْ العالم العربي بالدرجة الأولى والعالم الإسلامي بشكل أشمل من بورما وكشمير وأفغانستان حتى المحيط الأطلسي وما وراءه بالحروب التقليدية وبالتضييق والاضطهاد والتمييز العنصري الذي يقترب تدريجيًا من اضطهاد محاكم التفتيش في إسبانيا، وقد تصل الأمور مستقبلاً إلى الحرب البيولوجِيَة. وإذا استمرت هذه الحرب الصليبية عبْر الأجيال المقبلة وبقي ضحاياها في حالة ضعف فيصبح مُسلِمو العالم الموريسكِيِّين الجُدد. 

السلطات الإسبانية ومحاكم التفتيش كانت تُنسِّق عن قرب مع البابوية الكاثوليكية التي باركت ودعّمت كل تدابير الاضطهاد والقتل والتعذيب الوحشي وحتى الاستعباد، لأن الكثير من الموريسكيين، أحفاد أهل الأندلس، بيعوا في أسواق النخاسة الإسبانية بعد ثورة البشارات الثانية (1568م ـ 1571م)، لاسيما النساء والأطفال. لا تنس أن البابا ألكسندر السادس أسمه الأصلي رودريغو بُورْخا (Rodrigo Borja) ومولود في مدينة شاطِبَة في إقليم بلنسية بشرق إسبانيا وهو من بارك وشرَّع دينيًا "الحقوق" المزعومة للتاج الإسباني في احتلال أمريكا بعد وصول كريستوف كولومبس إليها، مما أدى إلى إباحة قتل عشرات الملايين من سكان المنطقة الأصليين. مثلما تم تنصير موريسكيِّي آراغون لاحقًا بالقوة بالتنسيق مع البابا وبإضفائه الشرعية الدينية على العملية.

والنتيجة المباشِرة كانت دفع الموريسكيين إلى الثورات التي انتهتْ في كل مرة بمآسي كبيرة بسبب القمع الشَّرس والاستخدام المفرِط للقوة ضد مدنيين كل ما كان في متناولهم هو ممارسة حرب عصابات بوسائل متواضعة وغالبًا ضعيفة. وعندما واصلوا مقاومتهم من مهاجرهم ضِمن القوات البحرية المغاربية قالوا عنهم إنهم "قطاع طرق" وقراصنة وهو ما يعادل إلى نحوٍ مَا عِبارة "إرهابيين" بمقاييس اليوم.

س ـ هل صحيح أن مأساة المسلمين في إسبانيا استمرت إلى وما بعد 1614م، إلى غاية وفاة فرانكو سنة 1975 ومجيئ الملك خوان كارلوس؟


 ـ المأساة استمرت بعد 1614م، وغير صحيح الاعتقاد السائد بأن مسلمي الأندلس خرجوا أو أُخْرِجوا من بلادهم جميعا، لا في سنة 1492م ولا في ما بين سنتي 1609م و1614م. حتى بعد الطرد هناك مَن بقي وبأعداد كبيرة أحيانا بشكل رسمي بالنسبة لبعض المتعاونين مع النظام الإسباني وأحيانا بشكل سري بتزوير الهوية وبالاختلاط في غرناطة مع الغجر، وهناك من عادوا بعد الطرد وغالبيتهم ممن لم يقدروا على التكيّف في مهاجرهم، بما فيها مهاجرهم المغاربية. 

 

الحرب كانت صليبية منذ ما قبل سقوط غرناطة في نهاية القرن 15م بل منذ قرون سابقة لسقوطها حيث انطلقت في القرن 11م وشملت المغرب الإسلامي والأندلس والمشرق


أرشيف محاكم التفتيش يتحدث عن موريسكيين / أحفاد الأندلسيين حُوكموا وعوقبوا حتى بالإعدام بسبب إسلامهم سرًّا خلال القرن 18م وحتى في بدايات القرن 19م، ليس في إسبانيا فحسب بل حتى في أمريكا الوسطى والجنوبية. وبعد أن قضى نابليون بغزو إسبانيا على مؤسسة محاكم التفتيش، تواصل الكُره والرفض للإسلام والمسلمين في إسبانيا اجتماعيا وسياسيا، وواصل أحفاد الأندلسيين ممارستهم قدر المُستطاع في الخفاء، في الكهوف والديار النائية في الجبال، تعاليمهم الإسلامية التي ضاع الكثير منها بعد أن أصبحوا لا يعرفون اللغة العربية ولم يتمكنوا من إعادة إنتاج نُخب دينية. وبقيت الأجيال تتوارث على الأقل فكرة أنها مسلمة في الأًصل وليست نصرانية إلى غاية وفاة الجنرال فرانكو في سنة 1975م، مما فتح المجال لِحرية المعتقد في عهد خليفته خوان كارلوس. حينها عاد الكثير من الإسبان من أصل أندلسي إسلامي، وما زالوا، إلى دِيانة أجدادهم على غرار عبد الصَّمد روميرو (Romero) وابنته الباحثة في جامعة غرناطة أديبة رُوميرو وكل أفراد هذه العائلة...

س ـ ما هي ثقافة وأعراق المسلمين الموريسكيين، طالما أنك ذكرت أنهم لا يقتصرون على العرب والبربر فقط، وأين تم استقرارهم بعد الهروب الكبير؟


ـ الأندلسيون، الذين أصبحوا منذ فشل ثورة البشارات الأولى (1499م ـ 1500م) وقمع الثوار بشدة يُعْرَفُون بـ: الموريسكيين، كانوا متعددي الجنسيات والأعراق عكْس الأكاذيب المعاصرة بخلفيات إيديولوجية وجيوسياسية. فالأندلسي قد يكون عربيًا أو بربريًا أو إسبانيًا أو فرنسيًا أو إيطاليًا أو من الفايْكِينْغْ القادمين من شمال أوروبا أو من الألْمَان وحتى من الأفارقة القادمين من ما وراء الصحراء وأيضا من إيران والهند وآسيا الوسطى وحتى من جورجيَا وروسيَا والصين. هؤلاء جميعا وَفدوا عبْر القرون الثمانية من عمر الأندلس إلى هذه المنطقة من جنوب أوروبا لأسباب متعددة ومتنوعة واختلطوا وامتزجوا بالزواج وانصهروا لِيصْنَعوا هوية جديدة هي الهوية الأندلسية، وهي مختلفة رغم نقاط التشابه العديدة، عن غيرها في المغرب الإسلامي ومشرقه. 

ومن الوهم الاعتقاد أن الدمشقي أو البغدادي أو المْسِيلي والميزابي والتلمساني أو القيرواني والطرابلسي والفاسي، الذين استوطنوا الأندلس على مدى يفوق 3 أو 4 أجيال على الأقل بقوا بها بشكل متواصل ودائم، دمشقيون أو بغداديون أو مسيليون أو ميزابيون.. إلخ. لا ننس أن بعضهم، خلال القرن 16م، لم يتمكنوا من التكيّف في شمال إفريقيا وعادوا إلى إسبانيا رغم الاضطهاد بسبب هذه التباينات الثقافية والاجتماعية. 

الغالبية الساحقة منهم انتهى بها المطاف في البلدان المغاربية من ليبيا حتى موريتانيا، مع تمركز قوي في تونس والجزائر والمغرب بأقدار متكافئة عدديًا. لكن هناك أفواج مهمة واصلت الرحلة حتى إفريقيا ما وراء الصحراء، على غرار مالي، ونحو المشرق العربي وأوروبا، كفرنسا وسويسرا وإيطاليا والبوسنة والهرسك وأقاليم الإمبراطورية العثمانية لا سيما إسطنبول وأضنة. كما عُثِر على آثار بعضهم حتى في الهند وما بعد الهند وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية عند الميلونجونس الذين ينحدر منهم الرئيس الأمريكي آبراهام لِينْكُولْنْ ومُغنِّي الرُّوكْ ألْفِيسْ بْرِيسْلِي واللذيْن يُعتقَد أن دماءً أندلسية تسري في عروقهم مثلما تسري في عروق العائلة الملكية البريطانية والملكة إليزابيث الثانية عن طريق عائلة المعتمد بن عبَاد الإشبيلية. 

س ـ حيثما حل الموريسكيون بثقافتهم وحضارتهم وتكنولوجيا ذاك العصر التي تميزوا بها، أبدعوا وتركوا إسهاماتهم الكبيرة، كيف كان لهم التأثير في نقل حضارة الأندلس الى الجنوب المتوسطي؟ 


 ـ كانت الأندلس صرّة العالم ثقافيًا وعلميًا وتكنولوجيًا وإنتاجًا مثلما هي اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ منتصف القرن 20م. لذلك حيثما حَلُّوا نقلوا معهم المعارِفَ والتكنولوجيات الجديدة في الصَّنائع والحِرف وفي الفلاحة والرّي وهما المجاليْن اللذيْن أبدعوا فيهما بشكل لامع أدى إلى انتشار أساليبهم فيهما عبْر العالم مبكِّرًا قبل سقوط الأندلس بفترة طويلة. 

 

من الوهم الاعتقاد أن الدمشقي أو البغدادي أو المْسِيلي والميزابي والتلمساني أو القيرواني والطرابلسي والفاسي، الذين استوطنوا الأندلس على مدى يفوق 3 أو 4 أجيال على الأقل بقوا بها بشكل متواصل ودائم، دمشقيون أو بغداديون أو مسيليون أو ميزابيون


مثلاً، في الجزائر أحدثوا ثورة زراعية وحوَّلوا المناطق التي سكنوها إلى جنّات وغيَّروا أساليب الإنتاج ورفعوا الإنتاجية واضطر أهل البلاد إلى مسايرتهم واتباع أساليبهم المتفوِّقة حفاظا على بقائهم في السوق. وحَفَرَ الموريسكيون الآبارَ وأنجزوا قنوات المياه والناعورات أو السّانيات والعيون وطواحين الماء. ولعل من أبرز مَن ترك منهم بصماته في هذا المجال الموريسكي المْعَلَّم موسى الثغري الأندلسي الحِميري. وأصبح البِنَاء في الجزائر، الدّيار والقصور والحَمَّامات والمساجد والحصون والأبراج والقِلاع والأسوار والمُدن بشكل عام، يُنجَز على النمط الأندلسي أو المغاربي ـ الأندلسي، وآثار هذا التأثير شاهدة إلى اليوم في المدن العتيقة في العاصمة الجزائرية وتلمسان وعنابة وقسنطينة والمدِيَّة والبُلَيْدَة ودَلَّس... عندما تدخل ديار الأندلس / إسبانيا وقصورها ومدنها العتيقة وتتجوَل في أزقتها في إشبيلية وغرناطة وألمرية ورُندة ومالقة وبلنسية، لا يمكنك ألاّ تشعر وكأنك في "قصبة" الجزائر أو في "السّويقة" في قسنطينة وغيرها من مدننا العثمانية، وما قبل العثمانية كتِلمسان التي كانت توصف بغرناطة إفريقية ودلّس التي بُنيت في العهد الحفصي من طرف أهالي المرية... بل هذا التأثير يوجد حتى في أسماء المدن والبلدات الجديدة التي تبدو مستوحاة من نظيراتها الاندلسية كالقليعة والبليدة ووادي الرمَّان... 

التعليقات (1)
نبيل
الثلاثاء، 25-02-2020 11:23 م
ممتع و مفيد

خبر عاجل