قضايا وآراء

تركيا ونبع السلام.. القصة الكاملة

ماجد عزام
1300x600
1300x600
يمكن القول إن عملية "نبع السلام" كانت مسألة وقت فقط منذ تنفيذ عملية "درع الفرات" في آب/ أغسطس 2016، ثم "غصن الزيتون" في عفرين في كانون الثاني/ يناير 2018. وبنظرة إلى الوراء، فيمكن القول بل إنها باتت حتمية منذ طرح الرئيس  رجب طيب أردوغان فكرة المنطقة الآمنة على نظيره الأمريكي باراك أوباما صيف 2013، ثم وضعت الحكومة التركية الخطط الننفيذية التفصيلية بعد عام تقريباً، أي في العام 2014.

أوباما رفض الفكرة أو التعاون مع تركيا لإقامة منطقة آمنة للثوار واللاجئين السوريين، ممتدة من البحر المتوسط غرباً الى العراق شرقاً، بحجة أنه لا يريد الانخراط في سوريا، والحقيقة أنه أراد تسليم سوريا وحتى العراق لإيران على مذبح الاتفاق النووي.

بعد ذلك بعام (2014) فكرت الحكومة التركية في تنفيذ الخطة وإقامة المنطقة الآمنة بشكل أحادي قبل ظهور داعش وقبل الاحتلال الروسي، لكن واشنطن عمدت إلى عرقلتها عبر أدواتها من ضباط جماعة غولن في قيادة الجيش؛ الذين تحفظوا عن التنفيذ في غياب الدعم الأمريكي السياسي والعسكري، مع تهويل تجاه احتمال الاصطدام مع روسيا وإيران.

كما قلنا دائماً، فقد كانت هزيمة الانقلاب نقطة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث، حيث تحررت القيادة السياسية، وأصبح الجيش تحت وصاية الحكومة الديمقراطية المنتخبة، وباتت الطريق سالكة بعد ذلك نحو تنفيذ المنطقة الآمنة، وصولاً إلى عملية "نبع السلام" الأخيرة.

نفذت تركيا أولاً عملية "درع الفرات" (آب/ أغسطس 2016)، فدخلت سياسياً من باب المعركة ضد داعش، واختارت أهدافا سهلة نسبياً من الناحية العسكرية، حيث مناطق مستوية منبسطة دون تضاريس جبلية وعرة (مثلث جرابلس الباب والراعي).

وتمت العملية دون رضى تام من واشنطن (أوباما) التي لم يكن بمقدورها الاعتراض على انخراط تركيا في الحرب ضد داعش انطلاقاً من مناطق متاخمة لها، خاصة مع دعوة أوباما المستمرة لتركيا لاستخدام جيشها الجرار ضد التنظيم.

بعد ذلك نفذت تركيا عملية "غصن الزيتون" (2018) في عفرين، ضد أدوات واشنطن من تنظيم "بي كا كا" السوري (قسد) دون رضى أمريكي أيضاً، ولكن مع حجة سياسية إعلامية أمريكية منطقية؛ كون المدينة خارج عمليات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمكافحة تنظيم داعش.

إذن، كان ثمة فاصل زمني بين العمليتين، لذلك لم يكن مفاجئا أن يتم تنفيذ "نبع السلام" في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أي بعد سنة وثمانية أشهر تقريياً من انتهاء عملية "غصن الزيتون"، خاصة أن العملية أكثر تعقيداً سياسياً وعسكرياً أيضاً.

خلال هذه المدة عمل أردوغان والقيادة التركية على تهيئة الظروف المناسبة أمام العملية داخلياً خارجياً. في الداخل، كان بإفشال الانقلاب، وإخضاع الجيش للسلطة السياسية المنتخبة، كما في أي نظام ديمقراطي، ثم تمرير التعديلات الدستورية التي سمحت بالانتقال إلى النظام الرئاسي لتسهيل اتخاذ القرارات الكبرى سياسياً واقتصادياً وإنمائياً، ومن ثم الحزمة الانتخابية الرئاسية البرلمانية (2018)، وأخيراً الإنتخابات المحلية في آذار/ مارس الماضي.

الاستحقاقات تم تجاوزها بسلام وبأقل الأضرار، مع الانتباه كذلك إلى معطى مهم  في تهيئة الساحة الداخلية للعملية، تمثل بالتصدي لما يصفها أردوغان دائماً بالحرب الاقتصادية، أو الإرهاب الاقتصادي الذى تعرضت له البلد صيف العام الماضي.

في السياق، جرى خلق إجماع أو دعم داخلي واسع حول العملية، ونسج تحالفات داخلية أيضاً مع حزب الحركة القومية اليميني، الأمر الذي لا يرتبط فقط بسعي الرئيس أردوغان لتمرير التعديلات الدستورية، أو تراجع شعبية حزب العدالة بعد خروج قادة منه، رغم أنه ما زال الحزب الأكثر شعبية، وبفارق كبير على مستوى البلاد، إنما كذلك بالسياسة الخارجية وتأييد الحزب اليميني للدفاع عن المصالح القومية، وتأييده الصارم للعمليات العسكرية التي تم تنفيذها ضد الإرهابيين في الخارج (سوريا والعراق) لقطع الطريق على إقامة كيان إنفصالى على الحدود يهدد إستراتيجياً الأمن القومي، ناهيك عن أنه يمنع أو يجهض أي إمكانية لحل سياسي في سوريا؛ قائم على وحدة أراضي البلاد.

أما في ما يتعلق بتهيئة الظروف المناسبة خارجياً، فقد تركز العمل باتجاه أمريكا بالدرجة الأولى، ثم باتجاه روسيا بالدرجة الثانية.

وأمريكا المعنية بشرق الفرات وفق تفاهم تقاسم النفوذ مع روسيا، كما أنها تمتلك قوات وقواعد في المنطقة، يفترض أنها حليفة لتركيا العضو في حلف الناتو التي تمتلك ثاني أكبر جيش بعد أمريكا، ورغم ذلك فقد شهدت العلاقات تجاذبات وتعقيدات خلال فترة أوباما، وحتى خلال فترة ترامب.

أمريكياً، كان أوباما قد رفض فكرة المنطقة الآمنة، فاضطرت تركيا لتنفيذها وحدها على مراحل. وأعتقد أنها كانت ستنفذ "نبع السلام" حتى بوجود إدارة أوباما؛ التي تخلت عن وعودها لتركيا، بما في ذلك انسحاب "بي كا كا" السوري من مدينة منبج غرب الفرات.

تحسنت العلاقات نسبياً مع إدارة ترامب التي كانت أصلاً بوارد الانسحاب من سوريا، كما تبنت رواية أنقرة تجاه توتر العلاقات مع الإدارة السابقة، بما في ذلك إصرارها على شراء منظومة "400S" الروسية، كما تم إغراؤها من قبل أنقرة عبر الموافقة على حزمة اقتصادية لتطوير العلاقات ورفع التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار، والانفتاح على فكرة شراء منظومة باتريوت، والاستمرار في برنامج إنتاج  طائرات "35F" التي تصنع  تركيا هياكلها الخارجية، إضافة طبعاً إلى الكيمياء الشخصية بين الرئيسين.

من هنا، فقد وافق ترامب على العملية، وأعطى ضوءا أخضر أو برتقاليا، فسحب قواته من الحدود لعدم الاصطدام مع الجيش التركى العضو في الناتو. وقدّم تبريرات مختلفة ومتضاربة قبل أن يتراجع تحت ضغط حملة النفاق الديماغوجية ضد تركيا في الكونغرس ووسائل الإعلام، كما من الدولة العميقة أو الأجهزة البيروقراطية التي وضعت أصلاً سياسات أوباما في سوريا والمنطقة؛ بما في ذلك تجاهل تركيا ومصالحها والاعتماد في محاربة تنظيم داعش على تنظيم "بي كا كا" السوري تعرف هي نفسها أنه إرهابي.

مع رورسيا جرى الأمر بسلاسة أكثر، كونها (روسيا) غير حاضرة مباشرة شرق الفرات، كما أنها تعتبر أن أي انشقاق بين واشنطن وأنقرة يصب في مصلحتها، إضافة الى أن تركيا شريك مهم لها على المستوى الثنائي خاصة اقتصادياً، كما في سوريا نفسها، حتى مع القلق أو التوجس المفهوم والمبرر؛ من قبل المعارضة والثوار السوريين، علماً أن تركيا رفضت التساوق مع روسيا، في محاولاتها لتصفية القضية السورية عبر إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، دون ضمانات سياسية وأمنية بإشراف ورعاية الأمم المتحدة، مع إصرارها الدائم على حل سياسي يرضي الشعب السوري ومطالبه العادلة في الحرية والعدالة، وحكم نفسه بنفسه في نظام ديمقراطي مؤسساتي.

لم تقم تركيا بجهد كبير باتجاه إيران وأوروبا؛ كونها تعي أنهما ليستا من اللاعبين المركزيين، وغير قادرتين عملياً على عرقلة خططها. وطهران تحديداً باتت لاعبا ثانويا بعد استجدائها الاحتلال الروسى لسوريا، إضافة لانخراطها في صراع متعدد الجبهات خليجياً ودولياً.

عموماً، فقد تدفق نبع السلام وفق الخطط الموضوعة مسبقاً، رغم الصخب أو النفاق الغربي سياسياً واقتصادياً وإعلامياً ونفسياً. والتطورات الميدانية سارت كما يجب دون عوائق كبيرة، علماً أن تركيا ما زالت منفتحة على التعاون مع الولايات المتحدة ثم روسيا، لتحقيق الأهداف بشكل كامل سياسياً دبلوماسياً، وليس حصراً عسكرياً، لكن مع التمسك بجوهر العملية وهدفها المركزي، بعدما وضعت دعائمه عملياً على الأرض عبر القضاء نهائياً على الكيان الانفصالي الأمريكي لإرهابيي "بي كا كا". ويتمثل الهدف بإقامة منطقة آمنة بالمعنى الكامل للكلمة، بعمق 32 كم على طول الحدود بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، قابلة طبعاً للتوسع بعد ذلك، تكون خالية من الإرهابين تماماً دون تمييز بينهم.. منطقة يديرها أهلها وسكانها السوريين بأنفسهم، بضمانة أو رعاية أمنية تركية أحادية، كون أنقرة كانت وما زالت الصديق والحليف الوحيد للشعب السوري، وثورته ومطالبه العادلة في الحرية الكرامة والعدالة في دولة ديمقراطية لكل مواطنيها.
التعليقات (0)